
تقرير: السعادة
مازالتْ الأكلاتُ الشعبيةُ محفورةً في الذاكرةِ، يتوارثُها الأجيالُ ويحافظونَ على وجودِها على موائدِهم، فزبديةُ الفولِ والحمصِ، وفَخَّارةُ الخضارِ والأَرُزِّ باللحمة؛ تتربعُ على موائدِ الإفطارِ والغداءِ في مناسباتِ وأيامِ الجمعةِ، وبِرغمِ تطوُّرِ الحياةِ وأدواتِ الطبخِ؛ يبقَى للطبخِ بالفَخَّارِ نكهةً خاصةً لا يضاهيها أيَّ نكهةٍ بالعالمِ .
والكثيرُ من السيداتِ الغزيِّاتِ يطبُخنَ في بيوتِهنَّ فخَّارةَ الخضارِ باللحمةِ، وفخّارةَ الأَرُزِّ… وتطوَّرتْ بعضُ الأكلاتِ؛ لِيتِمَّ طبخُها من خلالِ الفخّارِ .
طبخاتُ البلادِ
السيدةُ أم على كحيل (60) عامًا، تقولُ :” وإحنا صغار، كنت أسمع أمي وسِتّي يحكو؛ “ما في أزكى وألَّذ من الطبخ بالفخار”، وبالفعلِ ما كانو يستخدمون الفخّارَ في طبخِ الرُّزِّ والخضارِ، ولمّا كبرتُ وتزوّجتُ تعلّمتُ منهم، وصِرتُ أطبخ رز القِدرة في الفخّار، وعلَّمتها لبناتي المتزوجاتِ، ومين ما يذوق طبيخنا بالفخار، لازم يشكرُه ويتعلّم الطريقة .
في حين تقولُ ميسا أحمد (35) عامًا:” من بابِ الاحتفاظِ بتراثنا وأكلاتِ أمهاتنا أستخدِمُ الفخَّارَ في طبخِ بعضِ الأكلاتِ؛ مِثل الخضارِ والرزِّ، وزبادي السمكِ، وزبادي الذرة بالجبنِ، فأصبح أولادي يطلبون منّي باستمرارٍ بعضَ الطبخاتِ بالفخّارِ .
لا يقتصرُ الأمرُ على ذلكَ، منذُ زمنٍ والفخّارُ يُطلَبُ كهدايا للفلسطينيّينِ في الخارجِ للأقرباءِ والأصدقاءِ العربِ والأجانبِ في بلدانِ إقامتِهم، من أجلِ تحضيرِ أطباقِ الفولِ والحُمُّصِ مع الزيتِ والسلطاتِ الفلسطينيةِ، ومعها أداةُ “المَدقَّة” التي تُصنعُ من الخشبِ أو البلاستيكِ، بالإضافةِ إلى غيرِها من المأكولاتِ والعِطرياتِ التي غالبًا ما تكونُ موجودةً لدَى الأُسرِ الغزيّةِ في الخارجِ .
موروثٌ اجتماعيٌّ
“سائد عطا الله”، يقيمُ في بلجيكا، يحرِصُ على استخدامِ الزبادي الفخّاريةِ لإعدادِ أطباقِ الفولِ والحُمصِ على الطريقةِ الفلسطينيةِ، وغيرِهما من المأكولاتِ، ويقدِّمُها لأصدقائه، ولا ينسَى وضْعَ الفولِ والحمصِ في فُخَّارتَينِ من قطاعِ غزةَ.
يحرصُ “عطا الله” على المحافظةِ على المورثِ الفلسطيني من خلالِ اقتنائِه كلَّ ما يتعلقُ بالأدواتِ التراثيةِ والشعبيةِ في بلادِ الغربةِ؛ حتى تبقَى موجودةً، ويعملُ على التعريفِ بها في كلِّ مكانٍ، ولأصدقائه فيقولُ:” أحرِصُ على الطبخِ في أدواتِ الفَخَّارِ، التي أُوصي بها كلَّ مَن يأتي من فلسطينَ ، فطبخاتُ الفخّارِ هي تراثُ الأمهاتِ والجدّاتِ والأرضِ والوطنِ .
أحدُ الأسباب التي دفعتْ “عطا الله” لِجلبِ الفخّارِ؛ هو جِدالُه مع أحدِ الأكاديميِّينَ عن أصلِ إعدادِ الحُمصِ والفلافلِ، وقد ظنَّ الأخيرُ أنها إسرائيليةٌ؛ كَونَه كان يشتريها من مَحلٍّ كتبَ صاحبُه خارجَه؛ أنه يبيعُ مُنتَجًا إسرائيليًّا. اضطرُّ إلى إعدادِ الحُمصِ على الطريقةِ الفلسطينيةِ مع زيتِ الزيتونِ، ووَضْعِ رشّةٍ من الكَمّونِ عليه، مع حبوبِ الحُمّصِ المسلوقةِ ليتذوَّقَها زملاؤه، ويحكي لهم قصةَ الفولِ والفلافلِ والحُمّصِ المرتبطةَ بفلسطينَ وبلادِ الشامِ، ومصرَ؛ كَجُزءٍ من هويةٍ مشترَكةٍ عبرَ التاريخِ.
يقولُ :”الفخَارُ الغزيُّ بالنسبةِ لنا هويةٌ ومصدرُ فخرٍ؛ نضعُ فيه الماءَ ونشربُه، ونُعِدُّ أطباقَ الطعامِ فيه، بالإضافةِ إلى استخداماتٍ أُخرى” .
يضيفُ:”إننا نحتاجُ إلى تصريحٍ إسرائيليٍّ في حالِ أرَدْنا إحضارَ كميةٍ كبيرةٍ منه إلى الولاياتِ المتحدةِ؛ لأننا نعيشُ تحتَ حصارِهم، وهكَذا أُعرِّفُ الشعبَ الأميركيَّ بمُعاناةِ
مجتمعِنا الفلسطينيِّ تحتَ الاحتلالِ”.
فَخَّارٌ في شُنط السفرِ
يضطّرُ الغزيّونَ إلى التقيّدِ بالشروطِ الإسرائيليةِ لتصديرِ منتجاتِهم المحليةِ إلى خارجِ القطاعِ، وتُتيحُ إسرائيلُ تصديرًا محدودًا فقط إلى مدُنِ الضفةِ الغربيةِ.
وأخيرًا، بدأتْ بعضُ المشاريعِ لِنَقلِ المُنتجاتِ غيرِ الثقيلةِ إلى خارجِ القطاعِ ضِمنَ مكاتبِ بريدٍ معتمَدةٍ، وتخضعُ إلى تفتيشٍ دقيقٍ من الجيشِ الإسرائيلي. وتشيرُ دراساتٌ إلى أنّ غزةَ ما بينَ القرنَينِ الرابعِ والسابعِ الميلادي؛ كانت تُصدِّرُ سِلَعًا ومنتجاتٍ من فَخَّارٍ (جَرّة غزة)، وعُثِرَ على آثارِها في أهمِّ موانئِ العالمِ القديمِ، وكانت الحركةُ التجاريةُ تَنشطُ مع بروزِ صناعةِ أشكالٍ مختلفةٍ من الفخّارِ من أوانٍ وأباريقَ وجِرارٍ.
أمّا “أيمن الخليلي” من بريطانيا، مقيمٌ فيها منذُ (25) عامًا، يوضّحُ أنَّ أكثرَ من نِصفِ الفلسطينيينَ الذين زارَهم في المدينةِ؛ يحرِصونَ على وجودِ أطباقٍ من الفخّارِ في منازلِهم؛ لتقديمِ المأكولاتِ الفلسطينيةِ.
ويضيفُ”: “في كلِّ منزلٍ فلسطينيٍّ في الخارجِ؛ تَجِدُ الكوفيةَ والعلَمَ الفلسطينيَّ، والمطرَّزاتِ القديمةَ والحديثةَ، وقد ينسَى الناسُ الصوَرَ؛ لكنّهم لا يَنسَونَ النَّكْهاتِ المميّزةَ التي يتذوقونَها، والتي تختلفُ عن ثقافاتِهم، فَطبقُ السلطةِ الغزاويةِ بالفُلفلِ الحارِّ، مع نباتِ الجرادةِ وزيتِ الزيتونِ؛ أمتَعُ ما يكونُ بالنسبةِ لأصدقائي، والذين أطلقوا عليه اسمَ (صحنُ غزة). أمّا في فلسطينَ، فنحن نُطلِقُ عليه اسمَ السلطةِ الغزاويةِ، أو الدّقاقةِ الغزاويةِ”
شهرةٌ كبيرةٌ
وفي الدولِ العربيةِ انتشرتْ الأدواتُ الفخّاريةُ بفَضلِ الفلسطينيّينَ، وشقَّتْ الأكلاتُ الفلسطينيةُ طريقَها، وترَبَّعتْ وسطَ الأكلاتِ، وتنوّعتْ الطبخاتُ في الفخارِ وأخذتْ شهرةً كبيرةً.
يقولُ :”أملكُ أواني فخاريةً مصنوعةً من الصلصالِ الأبيضِ؛ من أجلِ مرَقِ اللحمِ للحفاظِ على حرارتِها، وجلبتُ العديدَ من الأواني الفخّاريةِ لأصدقاءَ وزملاءَ سعوديّينَ وباكستانيينَ، وحتى إيطاليينَ، وآخَرينَ من الولاياتِ المتحدةِ، لأنهم تذوّقوا الطعامَ في الفخّارِ، وكانت النكهةُ مميَّزةً، ويُمكِنُ أنْ ينقلَ المسافرُ الفخّارَ عبرَ معبرِ رفحَ البريِّ، بكُلِّ حِرصٍ، وعبرَ أشخاصٍ… فوجودُها في المنزلِ يجعلُني مطمئنًّا، ولو كُسرتْ إحداها أشعرُ بحزنٍ شديدٍ”.
وفي منزلِه أوانٍ فخّاريةٌ من مختلفِ الأنواعِ، وهو يَعتزُّ بها بين أصدقائهِ العاملينَ معه من مختلفِ الجنسياتِ.