Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
تحقيقاتتربوية

اللي بضربك كف اضربه، إوعك تروِّح مضروب

تشجيع الأهل على رد العنف يخلق طفلًا عدوانيًّا

 

تحقيق : السعادة

(اللي بضربك كَف اضربه، إوعك تروِّح مضروب) واحدة من أكثر القواعد التربوية انتشارًا في قطاعِ غزة، يمارسها الآباءُ والأمهاتُ على حدٍّ سواء، إذْ إنّ تطبيقَها من قِبلِ أبنائهم يُشعرُ الأهلَ بالرضا التامِّ عن شخصيةِ وأداءِ طفلِهم أمامَ أقرانِه في مجتمعِ المدرسةِ والشارعِ والأقرباءِ، تبدو هذه القناعةُ في التربيةِ رائجةً ليس فقط عربيًّا، ولكنْ على مستوى العالم، باعتبارِها الطريقَ الأمثلَ لحمايةِ الأطفالِ، ورَدعِ المعتدينَ، وهو ما يدفعُنا إلى التساؤلِ: هل هذه القاعدةُ صحيحةٌ تربويًّا؟ وهل يجبُ تلقينُها لأبنائنا لتربيةِ أطفالٍ أسوياءَ وأصِحاءَ نفسيًّا؟

وتأتى قناعةُ الأهلِ من رؤيتِهم أنَّ العنفَ لا يُرَدُّ، ولن يتوقّفَ إلاّ بعنفٍ مماثلٍ، ورُبما أشدُّ درجةً من العنفِ الأولِ، يرونَ أنَّ العنفَ هو فقط ما يسلبُ “القوة” من المعتدي لكي لا يُكرِّرَ اعتداءَه، وقد يُمرِّرُ الأبوانِ أو أحدُهما إلى أطفالِهما نهجَ ردِّ العنفِ بعنفٍ مماثلٍ، فقط لأنهما قد تلَقَّيا بدورِهما هذا النهجَ من آبائهم خلالَ طفولتِهم المبكرةِ، فاعتقدا أنَّ هذه هي الطريقةُ المُثلى للتعاملِ مع العنفِ، وحمايةِ الذاتِ، وصونِ الكرامةِ. هذا النهجُ ليس نهجًا عربيًّا فقط، بل يمكنُ القولُ إنه طريقةٌ في التربيةِ يتَّبِعُها العديدُ من الآباء على مستوى العالمِ.

لا تأتي باكيًا

“راوية عفانة”، موظفةٌ في أحدِ القطاعاتِ الحكوميةِ، وأمٌّ لثلاثةِ أطفالٍ تقول لـ “السعادة”: أنا مع تعليمِ الأطفالِ ضربَ من يضرِبُهم، ولستُ آسِفةً على ذلك، وأدرِكُ أنَّ هذا يبدو غريبًا من أمٍّ متعلمةٍ مِثلي؛ لكنّ العنفَ في مجتمعِنا العربي لا يُردُّ إلاَّ بعنفٍ، فإذا ضربَ طفلي شخصٌ ما؛ دونَ أنْ يَرُدَّ؛ فعليَّ أنْ أدركَ بعدَها أنّ طفلي سيتعرضُ للضربِ من الجميعِ.

وتضيفُ:  أنا لا أصنعُ طفلاً متنَمرًا أو عدوانيًّ، أنا أُعلِّمُ طفلي أنْ يكونَ قادرًا على الدفاعِ عن نفسِه في حالِ تعرَّضَ لأيّ اعتداءٍ من أيِّ أحدٍ، منوِّهةً: أنتَ تستطيعُ أنْ تُربّيَ طفلاً جميلاً دونَ أنْ تعلِّمَه أيَّ سلوكٍ مرفوضٍ، وتعلِّمَه أنَّ ضرْبَ الآخَرينَ أمرٌ خارجٌ عن نطاقِ الأدبِ، لكنكَ للأسفِ لا تستطيعُ أنْ تُعلّمَ الآخَرينَ أنّ عدمَ ردِّ الطفلِ على مَن اعتدى عليه؛ هو تربيةٌ صالحةٌ.

وترجعُ بذكرياتِها إلى الوراءِ، وتجربةِ تربيةِ طفلِها الأولِ التي حاولتْ من خلالِها تكوينَ نموذجٍ من الأطفالِ المسالمينَ الهادئينَ، الذين يستخدمونَ لغةَ الحوارِ والتفاهمِ والاستئذانِ للانطلاقِ إلى المجتمعِ، وكيف شاهدتْ طفلَها يُضرَبُ لِعدَّةِ مراتٍ من أقرانِه داخلَ العمارةِ السكنيةِ التي يقطنوها؛ حتى بات كلُّ الأطفالِ يتجرؤونَ على ضربِه، بل وينعتونَه ب(الهامل)؛ كنايةً عن عدمِ مقدرتِه على الردِّ أو الضربِ.

أمّا “توفيق المصري”، وهو أبٌ لسِتةِ أطفالٍ، فيقول: أنا من الجمهورِ الذي يتبعُ طرُقَ التربيةِ القديمةِ، وحقيقةً أنا أُعلِّمُ ابني أنْ لا يعتدي على أحدٍ بالمطلقِ، وأنه إذا تعرّضَ لأي موقفٍ استدعَى منه أنْ يضربَ أحدًا؛ عليه أنْ يُمسكَ نفسَه ويتَّجِهَ إلى الشخصِ المسؤولِ عن الطفلِ الآخَرِ، والشكوَى عليه، والحمدُ للهِ، أبنائي ملتزمون بذلكَ، لكني في نفسِ الوقتِ أُعلِّمُه أنه إذا ضربكَ أحدٌ؛ لا تأتِ إليَّ باكيًا.. اضربْهُ ثُم تعالَ أبكِ في حِضني، أمّا أنْ تأتيَ إلى المنزلِ وأنت مضروبٌ دونَ أنْ تسدَّ ضربتَكَ؛ فسأُعاقِبَكَ.

ويضيفُ: لا أعرفُ إذا كانت هذه القاعدةُ صحيحةً، أمْ خاطئةً، لكنْ من خلال تجربتي كطفلٍ، وتجربتي كأبٍ أعُدُّها ناجحةً لصناعةِ طفلٍ قادرٍ عن أنْ يدافعَ عن نفسهِ بشكلٍ أساسٍ في أيِّ موقفٍ قد يتعرضُ إليه، في مجتمعِنا الحالي نحن بحاجةٍ إلى بناءِ شخصيةِ الأبناءِ بطريقةٍ معقَّدةٍ؛ حتى يستطيعوا أنْ يكافحوا في هذا المجتمعَ.

يضربُ أيَّ شخصٍ

بينَما يقولُ “حسام الدين عرفات”، والذي عاد إلى غزةَ بعدَ سنواتٍ طويلةٍ من الغربةِ مع عائلتِه، في أحدِ دولِ الخليجِ، يقولُ لـ “السعادة”:” في “أبو ظبي” لم نكنْ نخرجُ إلى الشارعِ مطلقًا، مجتمعُنا محصورٌ ما بينَ المدرسةِ والمنزلِ والرحلاتِ مع الأصدقاءِ، وعندَما عُدنا إلى قطاعِ غزةَ، كان الخروجُ إلى الشارعِ هو الشكلُ المُتاحُ أمامَ الأولادِ، وكنتُ حينَها في المرحلةِ الإعداديةِ، ولدَيَّ نَمطٌ تربويٌّ مُعَيَّن.

ويضيفُ: لِذا كان خروجي إلى الشارعِ يعني أنْ أتعرّضَ للضربِ من الجميعِ في بدايةِ الأمرِ؛ ثمُ قلَّ الأمرُ مع الوقتِ، لكني كنتُ أخافُ الخروجَ على بابِ المنزلِ لعدّةِ سنواتٍ؛ لأنني متأكّدٌ من أنني سأُضرَبُ، وحاليًّا هذه الذكرياتُ هي من تَجعلُني أعلِّمُ ابني أنْ يضربَ كلَّ مَن يضربُه، أو يقتربُ منه في محاولةٍ لإيذائهِ، فأنا لا أتخيّلُ أنْ يتعرّضَ ابني إلى ما تعرّضتُ له على مدارِ سنواتٍ بدافعِ التربيةِ الصحيحةِ أو الصالحةِ.

من جانبِها، تقولُ الدكتورة “ختام أبو عودة”، اختصاصيةُ العلاقاتِ الأسريةِ: إنّ الأهلَ الذين ينصحونَ طفلَهم بضربِ من يضرِبُه، هو والدٌ يُعطي الشرعيةَ لطفلِه باستخدامِ العنفِ، حينَما ينجحُ الطفلُ بالفعلِ في استخدامِ العنفِ في ردِّ اعتداءٍ وقعَ عليه، فقد تَجِدُه يستخدمُ العنفَ لاحقًا في أغلبِ مواقفِ حياتِه، وقد يستخدمُ الأطفالُ العنفَ للتعاملِ مع الإحباطِ، وخيبةِ الأملِ، والغضبِ، سيُصبحُ العنفُ بالنسبةِ إليهم طريقةً فعّالةً لحلِّ المشكلاتِ التي يواجهونَها، وهم يفعلونَ ذلكَ لأنه قد ثبتَ لهم بالتجربةِ أنّ هذا الأمرَ فعّالٌ.

وتضيفُ: ستكونُ هناكَ أوقاتٌ في حياةِ الطفلِ؛ يكونُ فيها غاضبًا لدرجةِ أنه يريدُ أنْ يضربَ أيَّ شخصٍ أمامَه، إذا علَّمتَ طفلَكَ كيفيةَ التعاملِ مع هذه المشاعرِ بفاعليةٍ، فيُمكِنُه تجنُّب فقدانِ السيطرةِ”. هذا يختلفُ عن جعلِ العنفِ مستساغًا أو مقبولاً؛ فيُصبحُ في هذه الحالةِ خيارًا متاحًا؛ حتى في الأمورِ والمواقفِ التي لا تستلزمُ العنفَ.

على النقيضِ من نصيحتِكَ لطفلِكَ بِرَدِّ العنفِ بعُنفٍ مُماثلٍ، قد تكونُ مهمَّتُك الأساسيةُ بصفتِكَ والدًا مسؤولًا؛ إذا كان طفلُكَ يشعرُ أنه يكتسبُ القوةَ من خلالِ العنفِ، هي مساعدتُه على التخلصِ من هذه “القوةِ” غيرِ الحقيقةِ، من خلالِ عدمِ التسامحِ معَ العنفِ.

ردُّ العنفِ بعُنفٍ

وتتابعُ: بخلافِ الأزماتِ والمشكلاتِ النفسيةِ والمجتمعيةِ التي يُسبِبُها نهجُ ردِّ العنفِ بعنفٍ مُماثلٍ، فهناك جانبٌ أكثرُ خطورةً، وهو أنه عندما تعطي طفلَكَ صلاحيةَ استخدامِ “العنفِ” على إطلاقهِ، هل تكونُ متأكّدًا أنّ طفلَكَ هذا لن يعودَ إليكَ في يومٍ ما، وقد ارتكبَ جريمةً ما؟ الحقيقةُ أنه لا يوجدُ أيُّ ضمانٍ لعدمِ حدوثِ ذلكَ، واقعيًّا جرائمُ قتلِ الأطفالِ لبعضِهم بعضًا تَحدُثُ بالفعلِ.

تواصلُ أبو عودة: “سلسلةُ العنفِ لا تنتهي حلقاتُها بردِّ الاعتداءِ باعتداءٍ مُماثلٍ، سيَضربُ طفلُكَ مَن يضربُه، الطرَفُ الآخَرُ لن يصمتَ أو يَستسلِمَ بسهولةٍ؛ بل سيَجمعَ أصدقاءَه، ويضربَ طفلَكَ مرّةً أخرى، والمرّةُ القادمةُ سيجمعُ طفلُكَ بدَورِه أصدقاءَه ليقومَ بالردِّ، هل تتخيّلُ هنا حجمَ الخسائرِ النفسيةِ، ورُبما الإصاباتِ البدَنيةِ التي  يمكنُ أنْ تُصيبَ الطرَفينِ؟ ثُم ماذا إذا كان طفلُكَ ضعيفَ البنيةِ، نحيفًا أو قصيرًا، ولا يُناسبُه أنْ يسيرَ على هذا القانونِ الحياتي الذي وضعتُه له، بأنْ يضربَ مَن يضرِبُه؟ هل تتخيّلُ كمَّ الألمِ والشعورِ بالعارِ، ورُبما كراهيةِ نفسِه؛ لأنه لا يستطيعُ حمايةَ نفسِه من الاعتداءِ؟!”.

 وتستدركُ: يجبُ تعليمُ الأطفالِ أنْ يتفاعلوا مع الآخَرينَ؛ من خلالِ التعاطفِ واللطفِ،  امنَحْهم خيارَ الابتعادِ عن المواقفِ الحساسةِ، التي قد يتصاعدُ خلالَها العنفُ، وأشرحْ لهم متى يكونُ الردُّ مقبولا، وفي طورَ فهمِ الطفلِ لجميعِ ردودِ الفعلِ المتاحةِ له، سيتعلّمُ كيفيةَ تحديدِ التصرّفِ الأمثلِ وفقًا للموقفِ، مثلاً عندَما يصبحُ في المدرسةِ الثانويةِ، ويرى شخصًا ما يحاولُ مضايقةَ فتاةٍ؛ فلا ينبغي أنْ يكونَ إظهارُه للتعاطفِ واللطفِ مع هذا الشخصِ هو الخيارُ الأولُ، ولا يجبُ أنْ يستخدمَ قبضتَه كأولِ ردِّ فعلٍ، وهنا تأتي أهميةُ تعليمِه الوعيَ الظرفيَّ بالموقفِ، وتمكينُه من فهمِ عواقبِ ردِّ فعلهِ، هذا الأمرُ سيُفيدُه ويفيدُ الناسَ من حولِه.

ترى “أبو عودة” أنّ الحلَّ الفعّالَ يَكمُنُ في تربيةِ طفلٍ قويٍ “نفسيًّا”، فالقوةُ النفسيةُ أفضلُ وأهمُّ بمراحلَ كثيرةٍ من القوةِ البَدنيةِ، فمِن أفضلِ الطرُقِ لمنعِ التنمرِ والاعتداءِ؛ أنْ يتمتعَ طفلُكَ بإحساسٍ صحيٍّ بتقديرِ الذاتِ والثقةِ بالنفسِ، ويمكِنُ للأطفالِ الذين يتراخونَ، وتكونُ عيونُهم متجنّبةً للمواجهةِ؛ أنْ يَظهروا كضعفاءَ، ويسهلَ استهدافُهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى