Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
مقالات

يا أبا ذرٍّ إنِّي أراكَ ضعيفًا

لا شكَّ أنَّ القائدَ الناجحَ هو مَن توَفَّرتْ فيه صفاتُ القيادةِ مجتمِعةً، وليس القائدُ الضعيفُ من يوصَفُ بضعفِ قوّتِه البدَنيةِ، أو ضَعفِ الإيمانِ، ولا ضَعفِ القبيلةِ والعشيرةِ، ولا ضعفِ الشخصيةِ، لكنْ يوسَمُ بالضعفِ ذاك الذي يحبُّ السُّلطةَ ويسعَى لها.. ويطلبُ القيادةَ، فالضعفُ هنا حبُّ السلطةِ واتّباعِ هوَى النفسِ الكامنِ في صدرِه.

ألا توافِقني الرأيَ أنَّ هناك أشخاصًا لا حصرَ لهم بينَنا، يعتقدونَ أنهم أقوَى من سيدِنا “أبي ذرٍ الغفاري” رضيَ اللهُ عنه؟ مع أنّ “أبا ذرٍ الغفاري”، كان قويًّا جدًّا بكُلِّ معاني القوةِ التي نفهمُها: فقد كان، رضيَ اللهُ عنه، قويًّا في جسمِه، قويًّا بشجاعتِه، وقويًّا بقبيلتِه، ولَمّا أسلمَ أصبح قويًّا أيضًا بإيمانِه، وعُرفَ “أبو ذر” بأنه لا يخشَى في قولِ الحقِّ لومةَ لائمٍ، حتى قال عنه المصطفَى _صلى الله عليه وسلم_ الحديثَ المشهورَ: “ما أقلّتْ الغبراءُ، ولا أظلتْ الخضراءُ من ذي لهجةٍ أصدقَ من أبي ذر.”

فقصةُ إسلامِ “أبي ذر” رضيَ اللهُ عنه؛ تتمثلُ فيها معاني القوةِ والشجاعةِ، يتبدَّى لَنا فيها بوضوحٍ أنَّ “أبا ذر” تحدَّى بإسلامِه أهلَ الكفرِ قاطبةً في مكانِ تَجمُّعِهم.

فلما أسلمَ “أبو ذر” قالَ له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: “ارجِعْ إلى قومِكَ فأخبِرهم حتى يأْتيكَ أمري. قال: والذي نفسي بيدِه، لأَصرُخَنَّ بها بينَ ظهرانيهِم، فخرجَ حتى أَتى المسجدَ، فنادَى بأَعلَى صوتِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ؛ ثم قام القومُ فضربوهُ حتى أَضجَعوهُ، وأَتى العبَّاس فأَكبَّ عليه، قال: ويلَكم أَلستُم تعلمونَ أَنه من قبيلةِ “غِفار”، وأَنّ طريقَ تُجارِكم إلى الشامِ يمُرُّ خلالَهم، فأَنقذَه منهم، ثم عادَ من الغدِ لمِثلِها، فضربوه وثاروا إلَيه، فأَكَبَّ العبَّاس علَيه”.

وقد كان إسلامُه فتحًا كبيرًا؛ أسلمتْ قبيلةُ “غفار” على يد “أبي ذر” رضي الله عنه؛ وجاءت قبيلةُ أسلَمَ كذلكَ مُسلمةً بدعوتِه، بل إنه بعثَ التفاؤلَ في نفوسِ الكثيرينَ؛ حيثُ إنه حقَّقَ النجاحَ من حيثُ يتوقَّعُ الجميعُ الفشلَ!

مع ذلكَ كلِّه، أُنظُرْ ماذا كان ردُّ النبي صلى الله عليه وسلم، حينَما قال “أبو ذر” للرسول صلى الله عليه وسلم: “ألا تستَعمِلني يا رسولَ الله؟”، أي ألا تولِّيني ولايةً؟ فكان أنْ ربّتَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم على منكِبِه، وقال له “إني أحبُّ لكَ ما أحبُّ لنفسي”، وذلكَ لكي يخففُ عنه وقعَ ما سيقولُه له:

“يا أبا ذر، إني أراكَ ضعيفًا، وإنها لأمانةٌ، وإنها يومَ القيامةِ خزيٌ وندامةٌ”. وأضافَ صلى الله عليه وسلم: “لا تُأمَّرَنَّ على اثنينِ”، أي لا تكنْ أنت الأميرَ، ولو كنتَ ثانيَ اثنينِ.

“إني أراكَ ضعيفًا”، أي أنك قد ترَى في نفسِك أنك قويٌّ، وقد تبدو للناسِ قويًّا، ولكني أراكَ ضعيفًا بمقياسٍ آخَرَ، هو ضعفُ أنْ يكونُ في قلبِكَ حُبٌ للرئاسةِ.

فإنَّ حبَّ السلطةِ والزعامةِ والرئاسةِ؛ هو ضعفٌ يجعلُ الشخصَ غيرَ مُؤَهلٍ للرئاسةِ.

وعدمُ الأهليةِ للرئاسةِ ليس شرًّا، وليس عيبًا البَتةَ، بل هو خيرٌ عظيمٌ يُجنّبُك الفتنةَ، ويجنِّبُك تحمّلَ أمانةٍ قد تورثكَ الحسرةَ والندامةَ، ولو أطاعَ المرءُ هوى الرئاسةِ في قلبهِ؛ يكونُ قد جنى على نفسِه وعلى الناسِ، لأنّ من جاءتهُ الرئاسةُ من غيرِ طلبٍ؛ أعانَه اللهُ عليها، ومن سعى إليها وحرصَ عليها؛ أوكلَه اللهُ لنفسِه، فضاعَ وأضاعَ، وفسدَ وأفسدَ الرعية.

فلقد علَّمَ النبي صلى الله عليه وسلم “أبا ذر” دواءَ حُبِّ الرئاسةِ؛ وهو أنْ يبتعدَ عنها، ولا يقرَبَها أبدًا

فما كان من “أبي ذر” إلّا أنْ نأى بنفسِه عن طلبِ السلطةِ طيلةَ حياتِه، فابتعدَ عن عاصمةِ الحُكمِ، منتبِذًا مكانًا بعيدًا عن السلطةِ، فعاشَ في “الربدة” وحيدًا حتى ماتَ وحيدًا، وقد عملَ بنصيحةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولم يطلبْ الولايةَ من سيدِنا أبي أبكر، أو عمرَ، أو عثمانَ، رضي الله عنهم وأرضاهم.

رحِمَ اللهُ “أبا ذر الغفاري”، مشَى وحيدًا، وماتَ وحيدًا، لم يسجدْ لِصَنَمٍ قبلَ الإسلامِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى