مرآتي
- ثقافة الـ “عادي”
ألغيت حسابي على نتفلكس! أجل، بعد عام على اشتراكي في الموقع سيء السمعة، والسبب أعمق بكثير من مجرد طبيعة المواد المنثورة فيه؛ فلكل شخص ميزانه الأخلاقي ورقابته الداخلية، ألغيته رغم أن متابعتي متصلة صلة وثيقة بتخصصي العملي، ومجال كتابتي الدرامية، السبب هو تلك الفكرة المرعبة التي تجعل انتشار الرذيلة بكل أصنافها، والمعرفة بوجودها، بل وتصنيفها كـ”فن”، أمراً عادياً! أن تتناثر حولنا مواد في غاية التطرف، دون أن نشعر بالضيق، وصولنا إلى مرحلة عدم إنكار العنف المتصاعد، والانحطاط الأخلاقي، طالما لسنا “منخرطين فيه”..
حاولت تخطي الشعور بالاختناق وأنا أـتنفس من أنبوب ضيق وسط الغازات السامة، لكنني ببساطة لم أستطع! حالة “التعييد” التي تحاول شركة غسيل الأدمغة فرضها علينا مخيفة، تعييد التطرف في كل شيء، والانحلال من كل شيء، بل وحلب جيوبنا مقابل ذلك! في مزاد عام يعرض فيه كل شيء ونقيضه، تدفع نقودك لتزداد تيهاً وضياعاً!
أعتقد جازمة أن مقاطعة نتفلكس واجب فكري، ثقافي، علاوة على كونه أخلاقي، صدقوني إن التواجد هناك ليس أمراً عادياً إطلاقاً، وإذا كنت تشعر بعدم الارتياح أثناء تواجدك هناك، فيجب أن تستغل هذه الفرجة من ضميرك والتصرف سريعاً وترك الموقع، أما إن كان وجودك هناك لا يشعرك بشيء من الضيق، فقد فات الأوان! وتمكن منك وحش الـ”عادي”، وقريباً سيسحبك إلى الهاوية..
وأما في مجالي العملي، وجدت الكثير من البدائل التي أستطيع من خلالها الوصول إلى الأعمال النوعية دون الاضطرار إلى الخوض في مستنقع نتفلكس
- غني فقير، وفقير غني
تحدث السائق بثقة واضحة، لم تهزّها ثيابه الرثّة، قال مجيباً عن سؤال قريبه الذي بجواره عن شخص يعرفه كلاهما: إن لازال كما هو، فقيراً رغم غناه!
تنبّه الشاب السائل للحكمة المختصرة، وتنبهت أنا بالضرورة، أما السائق فقد استرسل يصف قريبه ذاك: لازال على حاله بخيلاً، قتوراً، حبيس حرمان فرضه على نفسه وأبنائه!
رد الشاب مستهجناً: أليس جمع ثروة تكفيه عقوداً؟ وقد كبر أبناؤه وصاروا رجالاً؟
قال: بسببه يقضون أغلب أوقاتهم في الظلام، ولو أعدّ أحدهم كأس شاي ولم يُنهِها كلّها “بكبها على راسه”!
صمت الشاب وعلى وجهه ابتسامة ساخرة، وقال السائق الحكيم:
صدقني إنني أكثر غنى منه، فأنا يكون معي المال أنفقه بإرادتي متى وكيفما أشاء، وإن لم يكن معي غيره، أما هو فهو عبد لقلقه وشُحّه، لا يجرؤ على إنفاقه، يحسب أنه يملك المال، لكن المال هو الذي يملكه!كان ذلك أبلغ درس سمعته في دقائق.
- رسائل
لا يذكر أحدنا آخر مرة كتب فيها رسالة ورقية بخط يدوي، حملَت معها في مظروفها قطرات من عرق يده، وعلامات سبّبتها الدموع المتساقطة على الحبر، وبعضاً من عطره المفضّل، بل إن الكثيرين لم يسبق لهم أن خاضوا هذه التجربة من قبل وقد فتحوا أعينهم على شاشة صغيرة مستطيلة تجعل العالم بين أيديهم، المسافات فيه بالنسبة لأحدهم لا تتعدّى السنتيمترات التي تفصل تلك الشاشة عن وجهه، والزمن فيه لا يستغرق أكثر من وقت طباعة الحروف.
في هذا الزمن يكاد يكون من المضحك أن يتواصل شخصان برسائل من ورق.. كيف يُعقل أن تكون انقرضت تلك الرسائل التي شغلت الأدباء سنيناً عاكفين فيها على تاريخ وجمال وسيرة حياة؟ الرسائل التي تغنّى بها الشعراء وترنّم بها المغنّون وشكّلت واجهة الثقافة والتراث، الرسائل التي لوّعت العشاق وأثْرَت المؤلَّفات وزينت اقتباساتُها الخطب!