جبرُ الخواطرِ
بالأمسِ رأيتُ صورًا لاستقبالِ سيدةٍ كبيرةٍ في السنِّ، لم تُرزَقْ بالأولادِ، وزوجُها متوفَّى، وقد ذهبتْ للحجِّ هذا العامَ، وهذا يعني أنها ستعودُ، ولن يكونَ هناك أحدٌ في انتظارِها أمامَ بابِ بيتِها.
ولكنْ ما حدثَ شيءٌ آخَرُ، كان جيرانُها في انتظارِها، وقد زيَّنوا البيتَ والحارةَ، وكتبوا على الجدرانِ عباراتِ الترحيبِ والمبارَكاتِ، واجتمعوا أمامَ البابِ حاملينَ الحلوى، وينتظرونَها بالغناءِ والتهاني، فوجدتْ بفضلِهم مَن يشاركُها فرحتَها بالحجِّ، والعودةِ سالمةً إلى ديارِها، ما أجملَ جبرَ الخواطرِ!
في دراسةٍ أُجريتْ على تأثيرِ العطاءِ على مائةِ مريضٍ، أعطوا نصفَهم مبلغًا من المالِ، وطلبوا منهم صرْفَه على أنفسِهم، وأعطوا النصفَ الثاني مبلغًا مساويًّا، وطلبوا منهم صرفَه على غيرِهم، فاكتشفوا مع نهايةِ التجربةِ أنَّ مَن قاموا بإعطاءِ غيرِهم المالَ؛ تحسَّنتْ صحتُهم النفسيةُ، وصارتْ صحتُهم الجسديةُ نحوَ الأفضلِ، أمّا مَن قاموا بصرفِ المالِ على أنفُسِهم؛ فلم يتغيّرْ في حالتِهم شيءٌ.
هذه تجربةٌ من تجارِبَ كثيرةً؛ أثبتتْ كلُّها أنَّ العطاءَ مسؤولٌ عن إفرازِ مجموعةٍ من الهرموناتِ والناقلاتِ العصبيةِ المتحكِّمةِ في الانفعالاتِ؛ كالفرحِ.
انظُروا إلى جمالِ عبادةِ جبرِ الخواطرِ، وتأثيرِها على الصحةِ، إنه لشيءٌ جميلٌ أنْ تُعطيَ وترسمَ بسمةً على وجهِ أحدِهم، أنتَ المستفيدُ بالدرجةِ الأولى، هذا غيرُ مشاعرِ المحبةِ التي تتولدُ بينَ الطرَفينِ، كما قال رسولُنا الكريمُ:” تهادَوا تحابوا”
والحقيقةُ أنَّ الآيةَ الكريمةَ التي تقولُ ” وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ”؛ هي دليلٌ قاطعٌ وتفسيرٌ لِما تشعرُ به في لحظةِ عطاءٍ، لأنها لا تَعني الأجرَ فقط؛ وإنما تعني السعادةَ والراحةَ النفسيةَ والجسديةَ التي يشعرُ بها الشخصُ المُعطي.
علِّمْ أبناءَكَ العطاءَ، واجعلْهم يتأملونَ أنفُسَهم بعدَها، ويشعرونَ بيولوجيًّا بالطاقةِ الإيجابيةِ التي تنتقلُ إليهم، اطلُبْ منهم أنْ يتسابقوا في خدمةِ بعضِهم البعضِ، هذا يُحضِرُ كوبًا من الماءِ لشقيقِه، وذاكَ يقومُ بتحضيرِ الغداءِ لأختِه، وتلكَ تفاجئُ أختَها في عيدِ ميلادِها برسالةٍ جميلةٍ، لعلّها تكونُ رسالةَ محبّةٍ وسكينةٍ لقلبٍ مَوجوعٍ، وإذا ما انتشرتْ فكرةُ جبرِ الخواطرِ والعطاءِ في المنزلِ؛ انتشرتْ المحبةُ والطاقةُ الإيجابيةُ، كما في الآيةِ الكريمةِ:” “خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا”.
هذا يعني أنك أنت المستفيدُ الأولُ من كلمةٍ تَجبرُ فيها خاطرَ..، أو مالٍ تفرّجُ به همًّا، أو طعامٍ تُشبِعُ فيه بطنًا جائعًا، أو حتى ابتسامةٍ أو كلمةٍ، تُعيدُ لأحدِهم الأملَ في الحياةِ، حقًّا إنَّ العطاءَ جميلٌ، بسيطٌ، ومُفرِحٌ للجميعِ .
ولكنْ إياكَ أنْ تنسَى تلكَ اليدَ التي امتدّتْ إليكَ ببعضِ الفرحِ في لحظةِ ضعفِكَ، فالامتنانُ شقيقُ العطاءِ، ولابدَّ أنْ نتذكّرَ للأبدِ تلكَ القلوبَ الطيبةَ التي أعطَتْنا يومًا دونَ مُقابلٍ.