مرآتي
نجاح ..
ليس ثمة ما هو أجمل من فرحة النجاح، ولن تتكرر لحظة المشاعر التي تنتاب القلب حين استلام ثمرة الاجتهاد في أول خطوة جدية على طريق المستقبل، لحظة تعلق في الروح حتى رمقها الأخير، وقد تكون هي المحرك الأهم للشغف، والمنقذ الأخير للأمل، أو ربما اللحظة الأجمل في درب عسير، وبقعة الضوء الوحيدة في طريق مظلم.
في غمرة ما نشهده من متاعب في هذا الواقع المرير، لا يميل الناس إلى التفاؤل كثيراً بالنجاح، وبالتفوق، وبالمعدلات المرتفعة، ويتخيلون قبل استلام الشهادة شكلها وهي معلقة في إطار على حائط البطالة الطويل! معذورون هم، لأن الحال يغني عن المقال، لكن تبقى هنالك الكثير من المبشرات في دروب الناجحين:
- لكل شخص رزق مقسوم ووعد معلوم، ولن يمنعه عنه طابور طويل، ولا ضيق جليل.
- إن العبرة ليست في الدرجات والمعلومات، بل في العقل الذي يفهمها ويعيها، فإن كان واعياً قادراً على سبك كل ما تعلم في قالب جديد، فهو في مأمن، أما نماذج الحفاظ من ذوي الذاكرة الرقمية، وأسلوب تكديس المعلومات على طريقة “دون كيخوتة” لن ينقذ حتى الأوائل من الوقوف في طابور البطالة.
- لم يسبق أن رأينا أو سمعنا أحد المتميزين الذي لم يشقّ دربه ناجحاً في الحياة، أو لم يجد سبيلاً بعمل أو مشروع، التميز هو سرّ كل تقدم؛ كونك فريداً في مجالك، مبهراً في أفعالك، مبدعاً في تقديم خدماتك، يجعلك غير مستغنىً عنه ولا مستبدل، ومن نافلة القول إن هذا شيء لا علاقة له بالدرجات والمعدلات، ولا حتى بالشهادات.
أخيراً، يجب أن نؤمن إيماناً يقينياً أن هذه أولى درجات سلم الحياة، أول تجربة يتحمل الأبناء فيها مسئولية حقيقية، لكنها “الأولى”، وهي تجربة كغيرها من التجارب القادمة، الفشل فيها لا يعدو كونه محاولة واحدة، والقادم بعدها أعظم وأهم، والحياة فيها دروس أبلغ، واختبارات أعمق، النجاح فيها هو المعيار.
سوء ظن ..
كنت في الخامسة عندما قابلت فتاة في المطار، كانت لطيفة، خففت عني ملل انتظار ساعات الإجراءات العقيمة، تصادقنا في تلك المساحة العابرة؛ تحادثنا ولعبنا، وتبادلنا بعض الأطعمة، ولم نتوقف عن اللهو أمام ناظري أمهاتنا اللاتي كُنّ يراقبن من بعيد.
كانت الطفلة أنيقة على ما أذكر، لكنها كانت تضع كمية كبيرة جداً من الأساور الملونة في يدها، لدرجة مزعجة، وكانت تشعر بالضيق كلما حركت يدها وهي تأكل أو تلعب معي سباق التصفيق، لازلت أذكر جيداً عدد وألوان تلك الأساور الستة عشر! وفي محاولة مني لحلّ المشكلة اقترحت عليها أن تخلع نصف أساورها وتضعها في اليد الأخرى في محاولة للتخفيف من معاناتها، بدأت في خلع أساورها من يدها لمساعدتها، وقبل أن أبدأ في وضع ما خلعته في يدها الأخرى، تقدمت أمها نحوي بنظرات تقدح شرراً، وقالت ناهرة: لا تلمسي أساورها!
قلت بخوف شارحة: لم أكن أريد أن آخذها..
قبل أن أُتِمّ جملتي، كانت قد سحبتها من يدها متجهة لبوابة الطائرة، وهي تتمتم بكلمات غير مفهومة..
رمقتني الطفلة بنظرة أخيرة، وهي تلوح بيدها مودّعة، وبقيت أنا أشعر بغصة أن أمها تظنني سارقة! وبقيت أتساءل طويلاً: هل سمعت فعلاً ما قلته أو صدقته؟ هل أخبرت الصغيرة أمها عما حدث؟ هل روت الأم هذه الحكاية لمعارفها تحت عنوان “الطفلة التي كانت ستسرق أساور ابنتي في المطار”؟!..أسئلة كثيرة لم أنسها إلا حين جلست بجانب شباك الطائرة، لكن صداها لا زال حياً، وشورها لا زال يؤلم..
لا تسيئوا الظن في أحد، ولا ترحلوا قبل أن تفهموا الحقيقة.