المرأةُ والتمَركُزُ حولَ الأُنثَى
تدرَّجتْ الرُّؤَى الفكريةُ حتى وصَلْنا إلى نظريةِ التمرْكُز حولَ الأُنثَى، ففي البدايةِ كان الإنسانُ هو مركزُ الكونِ وسيّدُه ومرجعيةُ ذاتِه لحلِّ المشكلاتِ التي تحيطُ به، وهو الذي يضعُ المعاييرَ في هذا الكونِ، ويتحدّثُ باسمِ الإنسانيةِ المشتركةِ، أي الإنسانيةُ جَمْعاءَ.
ثُم بدأَ يتحدّثُ باسمِ البشرِ؛ ولكنْ في غيابِ مرجعيةٍ عامةٍ، فأصبحتْ الفرديّةُ تَطغَى على خِطابِه، فيصبحُ إنسانًا فردًا ينغلِقُ على نفسِه، ويفكّرُ في مصلحتِه وذاتِه، فأصبحتْ الذاتُ الفرديةُ لا الإنسانيةُ جمْعاءَ هي موضعُ الحلولِ في الكونِ، وبالتالي يُصدِرُ نفسَه في مواجهةِ الطبيعةِ ومواجهةِ الآخَرينَ، ويحاولُ استبعادَ الآخَرينَ، واستعبادَهم وتوظيفَهم لحسابِه.
ثُم تَوصَّلَ الإنسانُ إلى أنّ الطبيعةَ لها تأثيرٌ قويٌّ في الحلولِ لمشكلاتِ الكَونِ، فتَظهرُ الازدواجيةُ ما بينَ إنسانٍ مُتمَركِّزٍ حولَ ذاتِه وطبيعةٍ مُكتفيةٍ بذاتِها، ثُم تنحَلُّ الازدواجيةُ وتصبحُ الطبيعةُ هي موضعَ الحلولِ، وغابَ الجوهرُ الإنسانيُّ، وأصبحتْ الطبيعةُ هي من تتحكّمُ في الإنسانِ، فأذعَنَ للطبيعيةِ، وتَحكّمتْ به المادةُ.
وهنا اختلطتْ المرجعياتُ؛ وتراجعتْ وغابتْ في بعضِ الأحيانِ، وتتعدَّدُ مراكزُ الحلولِ بينَ الإنسانِ والطبيعةِ، وبالتالي غابَ اليقينُ، وأصبحَ العالَمُ مُفكَّكًا بلا مرجعياتٍ واضحةٍ، ويقفُ على درجةٍ واحدةٍ من جميعِ مكوّناتِ الكَونِ.
كلُّ ما سبقَ ساهمَ في تَبلوُرِ فلسفاتٍ ماديةٍ، وظهورِ عالَمٍ صراعيٍّ بينَ الثُّنائياتِ، ومنها ثنائياتُ الرجلِ والمرأةِ، والفردِ والمجتمعِ، وأصبحنا أمامَ الأسبقيةِ، أسبقيةِ الفردِ على المجتمعِ، وأسبقيةِ المنفعةِ الفرديةِ على قِيَمِ المجتمعِ ومتطلَّباتِ بقائهِ.
وفي المقابلِ كانت حركةُ تحريرِ المرأةِ تَنطلقُ من فكرٍ إنسانيٍّ يؤمنُ بمركزيةِ الإنسانِ في الكونِ، والإنسانيةِ المشتركةِ، وأنَّ المرأةَ كائنٌ اجتماعيٌّ يستمِدُّ وجودَه من انتمائهِ الحضاريِّ والاجتماعيِّ، وتحاولُ أنْ تدافعَ عن حقوقِها داخلَ حدودِ المجتمعِ، وتسعَى للعدالةِ الحقيقةِ؛ لِتنالَ المرأةُ بعضَ الحقوقِ السياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ، ثُم أصبحتْ تطالبُ بالمساواةِ الكاملةِ، ثُم مصلحةُ المرأةِ الفردِ بِغَضِّ النظرِ عن مصلحةِ المجتمعِ، تُبرِزُ تجلياتِ نظريةِ التمركُزِ حولَ الأُنثى في إعادةِ صياغةِ مفهومِ الإنسانِ عن نفسِه في ضَوءِ مَعاييرِ المنفعةِ الماديةِ والجَدوَى الاقتصاديةِ، وهيمنةِ الأفكارِ التعاقديةِ الماديةِ؛ مِثلَ الاهتمامِ بالكفاءةِ في العملِ في الحياةِ العامةِ، مع إهمالِ الحياةِ الخاصةِ، في ضَوءِ تهميشِ الروحانياتِ، والاهتمامِ بالمادياتِ، وإسقاطِ المشاعرِ والعواطفِ من الحساباتِ، وأصبحَ كلُّ عملٍ للمرأةِ يقاسُ بما تُحَصِّلُه من أجرٍ مادِّي، فأصبحَ ازدِراءُ الأمومةِ، وتغييرُ شكلِ الأسرةِ ومكوّناتِها، والدعوةُ للشذوذِ، والانحلالِ الأخلاقي، نتيجةً لصراعٍ نِدِّيٍّ ونَكِدٍ بينَ الرجلِ والمرأةِ .
وبالتالي أصبحتْ مجتمعاتُنا أمامَ مُعضِلةٍ ؛ هي تغييبُ المرجعياتِ الخاصةِ بنا، كمَرجعيةِ الشرعِ، والطعنِ في الموروثِ الثقافي والحضاري والعاداتِ والتقاليدِ، وبعدَ الصراعِ بينَ المرأةِ والرجلِ، أصبحتْ العداوةُ بينَ المرأةِ ومُجتمعِها؛ باعتبارِه جزءًا من الظلمِ الواقعِ عليها، والتأخُرِ في نَيلِ حقوقِها.