مرايا
(1)تفكير ناقد
ضمن محاولاتي المريرة لإبعاد أطفالي عن الأجهزة الذكية والتعلق بها، وتعريفهم إلى عالم القراءة، كنت أتابع معهم ماذا قرأوا وما رأيهم بما قرأوه، وما الذي استفادوه من قراءتهم له
كان محمد (9 سنوات) قد اختار قصة من نوادر جحا نصحته بها أخته الكبرى جودي (13 سنة) لأنها في رأيها “مضحكة”، أما كندة (5 سنوات) فقد اختارت قصة عشوائية لأن أعجبت بالأرنب الذي على غلافها
عندما سألت محمد عن القصة أبدى انزعاجه، ووجه كلامه لجودي بأنها ليست مضحكة، ولم أضحك، بل إن جحا كان وقحاً وتصرف بقلة تهذيب!
أما كندة فقالت إن قصتها كانت “تافهة وسخيفة” ولم تستفد منها شيئاً!
عندما عدت إلى نص القصتين، وجدت أن معهما كل الحق؛ فجحا أساء إلى سائل مسكين وكبّده عناء الصعود أدراجاً كثيرة ليخبره أنه ليس معه ما يعطيه وينصحه أن يسأل الله ذلك! وقصة الأرنب كارثة تربوية وفنية، ولا طائل منها البتّة!
أدركت ساعتها أن توجيه الأطفال إلى الوسائل التي نراها أكثر نفعاً لا يجب أن يكون على إطلاقه، بل يجب أن نضبط ذلك التوجيه ونجعله نوعياً، ليحقق هدفه بدقة وفاعلية، وإلا فهي وسيلة أخرى لتضييع الوقت، كما شعرت كيف يغدو التفكير الناقد كنزاً ثميناً، يمكن الأطفال من تقييم الأشياء والحكم عليها، ولذلك علينا أن نبحث عنه وننميه
بعد أن وافقتهما الرأي، وشجعتهما على إبداء الملاحظات فيما يقرأون، أصبحت أكثر ميلاً للانتقائية في اختياراتي لهم وتعاملي معهم.
(2)مقياس ذكاء
عام 1956 صمم لويس تيرمان اختباراً للذكاء يقيس قدرات الفرد، وتم اختصاره بـاسم (IQ) الشهير حتى اليوم، ويعدّ أساساً اختبارات الذكاء الحديثة.
وعام 1959 حصل طفل يدعى روبرت ستيرنبرع على تقييم ضعيف في معدل الذكاء السابق، كبر الصغير، وتخصص في علم النفس والقياس النفسي، وأصبح من أشهر علمائه، وخَلُص خلال بحوثه إلى أن الذكاء أوسع بكثير من قدرة عامة واحدة، خاصة أن بحثاً له جاءت نتائجه بأن أغلب الذين يحصلون على علامات مرتفعة في اختبار (IQ) عادة ما يفشلون في الحياة.
طوّر ستيرنبرغ اختباراً جديداً تقيس أسئلته كل الذكاءات، واعتبر هذا النموذج علامة فارقة في فهم طبيعة الذكاء والعمليات الإدراكية المرتبطة به.
الشاهد أن العقل البشري ليس له قالب ثابت يحدد مقدار جودته أو حدود إبداعه، وقد يكون الخلل في أداة القياس وليس في العقل، وفي كل شخص جانب مضيء، مهما بلغت عتمته.
(3)عرسٌ باكٍ
عندما كنت طفلة، حضرت مع أمي عرساً ليبياً بهيجاً لجيراننا (بحكم عيشنا هناك)، كانت تفاصيل العرس آسرة، أزياء شعبية نابضة بالحياة، وخيمة تراثية كأنها من بلاد الخيال، زينة وحليّ تأسر القلوب والأبصار، أهازيج وأغانٍ فيها من المعاني ما يشغل الفكر، وطعام وحلوى من عالم الأحلام..
كنت أراقب العروس الجميلة وهي في أبهى حلة، لم أنسَ حتى اليوم أي تفصيل من تفاصيلها، ثوبها المقصّب، ذهبها الذي يكاد يغطي جسدها، غطاء رأسها المزين، نقوش الحناء في كفيها، رائحة المسك التي تفوح منها، وكأس شراب اللوز الذي قدمته لي..
وفي غمرة الدهشة التي كانت تتملكني، كأنني أليس في بلاد العجائب، حدث شيء لم يكن بالحسبان؛ أخذت العروس بالبكاء، ثم ازدادت حدة بكائها، وتلفتُّ حولي لعلّ إحدى السيدات المخضرمات تنقذ الموقف وتمنع الكارثة، لكنهن كنّ يراقبنها وتعلو أصواتهن بالغناء أكثر، ويصدحن بالزغاريد!
جلست بجوار أمي، وهمست لها بما يجري ظناً مني أنه خلل فني يجب استدراكه، ابتسمت وهي تقول: إن الجميع يرى ذلك، وهو أمر اعتيادي..
وقبل أن يستوعب عقلي الصغير ذلك التناقض العجيب، بدأت موجة البكاء تتمدد وتتصاعد، فانضمت للعروس والدتها، وأخواتها، ثم قريباتها، الواحدة تلو الأخرى، حتى علا صوت النحيب، وامتزجت الأغنيات بالنشيج، والزغاريد بالدموع، وساهمت جُل الجارات والزائرات في نوبة النحيب تلك، حتى بدا الأمر كأنه مهرجان للبكاء!
لم أدرِ يومها سبب غزارة الدموع في ذلك العرس الهارب من قصص الخيال، لكنني أدركت بعد أعوام، أن الضحك والبكاء وجهان لقلبٍ واحد، وأن الأفراح هي أكبر مواسم استجلاب الأحزان، والزغاريد هي أكثر مثيرات الدموع!