قلوبٌ وبيتٌ
كُنا بجلسةٍ عائليةٍ بحضرة زوجي وأشقائه وشقيقاته، هذه العائلةُ التي خلفت الفضيلةَ ودماثةَ الأخلاقِ، والذي كان لي فخرٌ بأنْ يكون أبنائي سُلان جذورها، ترامَى الحديث على نواصي الأوصال، وحتى وصلَ بهم إلى طرَفِ شقيقتِهم الكبرى، ودَورِها الجَليِّ في تجميعِ أوصالِهم، وازدادَ الحديثُ جمالًا في الثناءِ على عطائها، وأنها جَملُ المَحامِلِ لظروفِهم، رغمَ تعقُّدِ ظروفِها، فمازحتْهم “واللهِ هالكلام الحلو يحتاجُ إلى مَقال “.
فقدْ لامسَ الكلامُ قلبي، بِعرفاني وامتناني لِحُبِّ ولرعايةِ واهتمامِ أخواتي وإخواني، إذْ كنتُ أصغرَهم جميعًا..
عشتُ في حِضنِ دلالِهم بكُلِّ أنواعِه في حقَبِ عمري المتتاليةِ؛ وحتى يومي هذا، وما زلتُ أختَهم الصغيرةَ، كما دائمًا يُطلقونَ عليّ؛ إذا عرَّفوا عليَّ أمامَ شخصٍ ما..
فإذا قدَّرَ اللهُ الموتَ على حياةِ إنسانٍ؛ فإنه يرسمُ ويُهيٍّئُ العوضَ؛ قبلَ أمرِه لملائكتِه بتنفيذِ هذا القَدَرِ، وكيف لا وهو اللطيفُ بنا، والخبيرُ بسَرائرِنا.
فسبحانَه، دائمًا يٌقسّم المَهامَّ في كلِّ أسرةٍ، فيصنعُ كلَّ شخصِ ليَليقَ بمهمَّتِه، ويعطيهِ المقدّراتِ التي يستطيعُ أنْ يكون بها حاملاً أمينًا لِما وضعَ على كتفَيهِ، فيُهيئُ اللهُ الظروفَ والقدراتِ والأرزاقَ لكُلِّ فردٍ ليكونوا السنَدَ والعَضُدَ والوَتينَ لبعضِهم البعضِ، فتَجدُهم متكاملينَ بما يملكونَ.
هناكَ الجميلُ المُطبطِبُ على الروحِ قبل الكتفِ، صاحبُ المشاعرِ الفيّاضةِ، مُتَحَسِّسُ الحاجاتِ، ومخفِّفُ الآهات، وهناكَ العارفُ الناصحُ الذي يسترشدُ الجميعُ بِنُورِ حِكمتِه، وهناك صاحبُ الصندوقِ ذو الجَيبِ العامرِ، الذي يُعلنُ وقفتَه في كلِّ فرحٍ وتَرحٍ، وهناكَ مَن لا يملكُ سِوَى أنْ يكونَ حاضرًا بابتسامةٍ، أو دمعةِ مُحِبٍّ، وهناك نحلةُ الأسرةِ الذي يُحضِرُ البعيدَ قبلَ القريبِ، وهناكَ مَن تتمثلُ فيه بَرَكةُ الأسرةِ، فوجودُه هو الأمانُ والسلامُ للجميعِ.
فأنا على يقينٍ أنَّ هذه تركيبةُ أغلبِ الأُسرِ، وطالما كان الوُدُّ بينَهم، ورَجموا وساوِسَ الشيطانِ وأولياءَه بنِعالهم، تبقَى سلسلةُ الأسرةِ قويةً، فإذا مالَ أحدُهم؛ اتَّكَأَ على أخيهِ أو أختِه، فيَكفيهِ السقوطَ، ويُقوِّي ضعفَه.
كنتُ دائمًا أسمعُ دعوةً لأمي _رحمَها اللهُ_ منذُ صغري، تَدعوها لنا، “يبعد عنكم الشيطان”، وتُتَمتِمُ بعدَها كثيرًا، وكم كان مَآلُها جميلًا..
فأساسُ تنامي الحُبِّ، وتَجَذُّرِه في قلوبِ الأسرةِ الواحدةِ، ليَكونوا كالبنيانِ المرصوصِ؛ هما الأبُ والأمُّ،
فالحبُّ بالقدوةِ، والحبُّ بالأُسوَةِ، والحبُّ بالغرسِ السليمِ لِيَقطِفَ ثمارَه الوارثونَ.
فالإرثُ ليس دراهمَ وعقاراتٍ قط، فالحبُّ إرثٌ وسُمعةٌ وحُسنُ سيرةٍ، إرثُ العِلمِ
والفضائلِ، وحُبُّ الخيرِ والتسامحِ، إرثُ وحبُّ الناسِ، وجَبرُ الخواطرِ، إنه إرثٌ، كما الشرِ وغلظةِ النفسِ وقسوتِها.
لهذا حَرِيُّ بكلِّ ربِّ وربّةِ أسرةٍ، أنْ يكونوا نواةً صالحةً لأسرتِهم، ليكونَ بنيانُهم قويًّا صلبًا من الخارجِ، وحانيًا متكافلًا في الداخلِ.
فإذا رأى الأبناءُ من آبائهم وأمهاتِهم حُنوًّا ومواقفَ قويةً في شدائدِ أشقائِهم وشقيقاتِهم، واهتمامًا لتفاصيلِهم، ومعرفةَ ما يُحزِنُهم وما يَجبُرُ خاطرَهم، سيكونُ هذا حالَ الأبناءِ معًا في صغرِهم وكِبَرِهم، في ضعفِهم وقوتِهم، في فقرِهم وغناهم، وفي مرضِهم وصحتِهم، هي حسْبنا دروسٌ بالممارسةِ والقدوةِ..
وحينَ رحيلِهم عن الحياةِ، سيَتركونَ وراءَهم خلَفًا لن يضيِّعوا إرثَهم، أو صِلةَ رحمِهم، وستنتقلُ عدوةُ الحبِّ ومبادلةُ التفقدِ والتواصلِ بينَ أبناءِ الأشقاءِ والشقيقاتِ..
اللهمَّ ارحمْ آباءَنا وأمهاتِنا مَن بنَوا وأحسنوا البناءَ، وبارِكْ بإخوانِنا وأخواتِنا، ولا تُرينا فيهم ضعفًا أو عنَتًا، وأعِنا على برِّهم وردِّ جميلِهم.. وأكتبْ لبيوتِ المسلمينَ دوامَ الوُدِّ والحبِّ والوفاقِ..