دولةٌ تحاربُ مَن يحاربُ الفسادَ
تداولتْ المواقعُ الإخباريةُ المحليةُ يومَ الاثنينِ المنصرمِ الموافقِ(5/6/2023م)، قيامَ مكتبِ الرئاسةِ الفلسطينيةِ باستدعاءِ ممثلي مؤسَّسةٍ وطنيةٍ محليةٍ فلسطينيةٍ، تهدفُ إلى التوعيةِ بمفاهيمِ الفسادِ ومحاربتِه؛ تُسمَّى الائتلافُ من أجلِ النزاهةِ والمساءلةِ “أمان”، إلى النيابةِ العامةِ على خلفيةِ إطلاقِها لنتائجِ تقريرِها الخامسَ عشرَ السنويّ، حولَ واقعِ النزاهةِ ومكافحةِ الفسادِ في فلسطينَ للعامِ (2022م)، والذي تطرّقتْ به لموضوعٍ عُرفَ “بتَبييضِ تمورِ المستوطناتِ الإسرائيليةِ”، حيثُ تمَّ استدعاءُ مستشارِ مجلسِ إدارةِ “أمان” ومديرِها التنفيذي؛ لأخذِ أقوالِهما في تُهمتَينِ، الأولى هي قذفُ مقاماتٍ عليا على رأسِ عملِها، والثانيةِ هي مخالفةُ قانونِ الجرائمِ الإلكترونيةِ؛ لنشرِها تقريرَ حديثٍ على موقعِها الإلكترونيّ حولَ القضيةِ، موضِّحةً أنّ السلطةَ الوطنيةَ الفلسطينيةَ تعاملتْ مع القضيةِ في العامِ الحالي بشكلٍ مختلفٍ، وتعودُ أصلُ القضيةِ إلى ثلاثِ سنواتٍ مَضتْ؛ حينَ قامَ ثلاثةٌ من موظّفي وزارةِ الزراعةِ، وموظّفٌ من وزارةِ الماليةِ في رام الله؛ بإعطاءِ شهاداتٍ رسميةٍ عن نوعِ تمرٍ بأنه فلسطينيٌّ، وجمعِه من المستوطناتِ، وتصديرِه إلى تركيا بمقدارِ ثلاثةِ آلافِ طنٍّ، وتغليفِه بأسماءٍ عربيةٍ على اعتبارِ أنه إنتاجٌ مَحليٌّ صُنعَ بأيدي فلسطينيةٍ، في حين أنه من نتاجِ مستوطناتٍ إسرائيليةٍ، ويحملُ أسماءً عِبريةً، وتمَّ اكتشافُ الأمرِ من قِبلِ تركيا الدولةِ المستورِدةِ لهذه التمور، والتي قامت بتقديمِ شكوَى بالخصوصِ؛ مفادُها بأنَّ التمورَ ليست فلسطينيةً، بل إسرائيليةً، كونَ أنّ التمرَ الفلسطينيَّ لم يَحِنْ بعدُ موعدُ نضجِه وإنتاجِه، وأنّ تمورَ المستوطناتِ هي التي تُنتجُ أولاً في تلكَ الفترةِ.
ورغمَ قيامِ هيئةِ مكافحةِ الفسادِ الفلسطيني في الضفةِ الغربيةِ بالتحقيقِ مع مسؤولي وزارةِ الزراعةِ، ومسؤولٍ واحدٍ من وزارةِ الماليةِ، قد تَورَّطوا مع شركاتٍ وموزّعينَ ومنازلَ تقومُ بتعبئةِ التمورِ، إلّا أنها لم تُحِلْ أيَّا منهم للمحاكمةِ ونيلِ الجزاءِ، بل حاولت السلطةُ الفلسطينيةُ هذا العامَ إجراءَ تصفيةٍ للحساباتِ، والاستيلاءَ على أملاكِ أحدِ المساهمينَ الكبارِ المستثمرِينَ في قطاعِ زراعةِ التمورِ، وانتهتْ بابتزازِه وإجبارِه على التنازلِ عن أملاكٍ وأراضٍ، وتسجيلِها باسمِ أفرادِ أمنٍ يعملُ أحدُهم مرافقًا في مكتبِ الرئيسِ، وذلكَ لدوافعَ سياسيةٍ؛ نظرًا لقربِ هذا المستثمرِ سياسيًّا من رئيسِ تيارِ حركةِ “فتح” المخالفِ لتوجهاتِ رئيسِ السلطةِ الوطنيةِ الفلسطينيةِ “محمد دحلان”.
إنّ الشكوى المحالةَ من مكتبِ الرئيسِ لهي صورةٌ جليّةٌ لصوَرِ الفسادِ السياسي الفلسطيني القائمِ على التنصُّلِ من الواجباتِ الرسميةِ المتصلةِ بالوظيفةِ العامةِ في سبيلِ تحقيقِ مصلحةٍ خاصةٍ لمجموعةٍ وحلقةٍ سياسيةٍ وحزبيةٍ ذاتِ نفوذٍ وتأثيرٍ في الحُكمِ، وصورةٌ جليّةٌ أخرى للفسادِ الأخلاقي، المُتمثلِ بوجودِ انحرافاتٍ أخلاقيةٍ وسلوكيةٍ غيرِ وطنيةٍ لموظّفينَ عامينَ بشكلٍ يعكسُ حقيقةً تكامليةَ العلاقةِ بينَ الاستبدادِ والفسادِ اللذانِ يبني ويحمي أحدُهما الآخَرَ، وبدَلاً من قيامِ السلطةِ الفلسطينيةِ بإحالةِ الفاسدينَ المفتئتينَ على الحقِّ العام الفلسطينيّ في شأنِه ومالِه، لتحقيقِ مصالحَ ومنافعَ شخصيةٍ ماليةٍ بحتةٍ؛ أحالَ مكتبُ الرئاسةِ الفلسطيني بشكلٍ مُجحِفٍ، ويتجاوزُ كافةَ الاعتباراتِ القانونيةِ والوطنيةِ والأخلاقيةِ، أحالَ مؤسسةً وطنيةً أهليةً، تسعَى لمحاربةِ الفسادِ، وتلعبُ دورًا تكميليًّا في دعمِ الحكومةِ بالحفاظِ على المالِ العام، والوصولِ لمبادئِ الحُكمِ الصالحِ، إلى النيابةِ العامةِ؛ مخالِفةً بذلكَ نصوصَ القانونِ الأساسي الفلسطينيّ نفسِه، الذي كفلَ حقوقَ وحرياتِ الإنسانِ الأساسيةَ، والتي منها الحقُّ في إنشاءِ المؤسساتِ الأهليةِ، وحريةِ عملِها، الواردةِ بقانونِ رقم (1) لسنةِ (2000م) بشأنِ الجمعياتِ الخيريةِ، والهيئاتِ الأهليةِ، والتي تنصُّ بالمادةِ رقم (1) على: ” للفلسطينيينَ الحقُّ في ممارسةِ النشاطِ الاجتماعي والثقافي والمِهني والعِلمي بحُريّةٍ، بما في ذلكَ الحقُّ في تشكيلِ وتسييرِ الجمعياتِ والهيئاتِ الأهليةِ، وفقًا لأحكامِ هذا القانونِ”، وبالإضافةِ للقرارِ بقانونِ رقم (4) لسنةِ (2010م)، بشأنِ حظرِ ومكافحةِ منتَجاتِ المستوطناتِ في مادّتهِ الثانيةِ بالفقرةِ الأولى، التي نصّتْ على “مكافحةِ منتَجاتِ وخدماتِ المستوطناتِ المُقامةِ على الأراضي الفلسطينيةِ، وفقرتِها الخامسةِ التي نصّتْ على ضرورةِ “رصدِ السِّلعِ والخدماتِ التي تُعدُّ منتَجاتِ مستوطناتٍ، وضبطِها ومقاطعتِها ومكافحةِ وحظرِ تداولِها”.
ولكنْ في دولةٍ استثنائيةٍ في كلِّ شيءٍ: في حكومتِها وشعبِها وقيادتِها وفلسفةِ عملِها، وحتى في طريقةِ معالجتِها لمشكلاتِها؛ بدَلاً من أنْ تُحيلَ الفاسدينَ للعقابِ؛ تحيلَ من يحاربُهم! فكيف لا، وقادتُها هم المنتفعونَ منه، والمتاجرونَ بعذاباتِ وتضحياتِ وخيراتِ هذا الشعبِ بشكلِ سيءٍ ؛ هذا يُجسّدُ مقولةَ ابنِ خلدونَ: “إذا تعاطَى الحاكمُ في التجارةِ؛ فسدَ الحكمُ وفسدتْ التجارةُ”.