
السعادة
في قلبِ الخليلِ القديمةِ تتربّعُ بِركةُ السلطانِ؛ إحدى أقدَمِ المورثاتِ المملوكيةِ التي عرفتْها واشتهرتْ بها مدينةُ الخليلِ، وتحديدًا إلى الجنوبِ من المسجدِ الإبراهيمي، وتحيطُ بها حاراتُ الخليلِ القديمةِ.
تبلغُ مساحةُ البِركةِ التي بُنيتْ بحجارةٍ متلاصقةٍ ومتناسقةٍ قرابةَ الـ (133) قدَمًا مُربعًا، وبعُمقِ (22) قدمًا، على شكلِ مُربعٍ، والتي كانت تُستخدمُ لسقايةِ الزوارِ القادمينَ من بلادِ الشامِ إلى مدينةِ الخليل.
المؤرّخُ الفلسطيني “شوكت حجة” يقولُ:” إنّ السلطانَ سيفَ الدينِ قلاوون أمرَ ببناءِ البِركةِ عامَ (682هـ/ 1282م)، وهو أحدُ السلاطينِ الذين توَلوا السلطةَ على مصرَ والشامِ أيامَ المماليكِ؛ بهدفِ سقايةِ الحجيجِ القادمينَ من الشامِ وشمالِ فلسطينَ إلى الديارِ الحجازيةِ، كما كانت تساهمُ أيضًا في سقايةِ الجندِ خلالَ الحروبِ الصليبيةِ.
إهمالٌ متعمّدٌ
ويضيفُ: إنّ البِركةَ كانت تعتمدُ بشكل أساسٍ على مياهِ الأمطارِ؛ لوقوعِها في مَصبِّ مياهِ وادي الخليلِ، والذي يستمرُّ متَّجِهًا إلى غزةَ و”عين جدي”.
ويشيرُ إلى أنّ البِركةَ أُهمِلتْ إبّانَ الاحتلالِ البريطاني، وتُركتْ بدونِ إعمارٍ وترميمٍ؛ ما أدَّى إلى تحوُّلِ البِركةِ لمكانٍ جامعٍ للبعوضِ والحشراتِ، ومصدرٍ للروائحِ الكريهةِ؛ ما دفعَ دائرةَ الأوقافِ الإسلاميةِ إلى تفريغِها من المياهِ، وتجفيفِ كافةِ القنواتِ المؤديةِ إليها؛ لحمايةِ سكانِ المنطقةِ منها؛ خاصةً بعدَ وقوعِ عددٍ من حالاتِ الغرقِ فيها.
في عهدِ الانتدابِ البريطاني، لم يَتِمّ الاهتمامُ ببِركةِ السلطانِ وترميمِها؛ بسببِ انشغالِ الناسِ في مقاومةِ الانتدابِ البريطاني.
وفي العهدِ الأردني تَحوّلتْ بِركةُ السلطانِ؛ لتَكونَ من أملاكِ وزارةِ الأوقافِ والشؤونِ الإسلاميةِ، التي حاولتْ الاهتمامَ في شؤونِها، لكنّ العديدَ من حوادثِ الغرقِ دفعتْ الأوقافَ الإسلاميةَ إلى تفريغِها من الماءِ.
في الوقتِ الذي رفضتْ فيه الأوقافُ إقامةَ أيِّ مشروعٍ مكانَها؛ حفاظًا على كونِها مَعلمًا تراثيًّا له تاريخُ… .
وفي ظِلِّ الاحتلالِ الإسرائيليّ تحوّلتْ بِركةُ السلطانِ إلى مكبٍّ للنُّفاياتِ والمياهِ العادمةِ.
هذه البِركةُ تمَّ إهمالُها في ظِلِّ الانتدابِ البريطاني على فلسطينَ، حيثُ أُهمِلتْ الشبكاتُ والقنواتُ التي تُغذِّيها، وفي ظِلِّ الاحتلالِ “الإسرائيلي”، قامتْ حكومةُ الاحتلالِ بإعلانِ المنطقةِ “منطقةً عسكريةً مُغلقةً”، وضَيَّقتْ الخناقَ على السكانِ والوافدينَ من الوصولِ إليها، ومنعتْ المؤسساتِ الفلسطينيةَ ووزارةَ السياحةِ والآثارِ والأهالي من ترميمِها.”
قهرٌ يعتصرُ القلوبَ
“عبدُ الرؤوفِ المحتسب”، الذي يجلسُ على كُرسيِّهِ الخشبيِّ؛ يَحتسي القهوةَ، ينظرُ إليها بحسرةٍ، ويستذكِرُ طفولتَه، ويروي قصةَ والدِه الذي علَّمه السباحةَ فيها، ويقولُ: “هذه البِركةُ كانت مُتنَزَهًا ومكانًا لتجَمّعِ الأهالي، كلُّ جيلي تعلّمَ السباحةَ فيها”.
ويستذكرُ الحُجاجُ والسياحُ الذين كانوا يؤمُّونَها من كافةِ بقاعِ الأرضِ؛ لِيلتقِطوا الصوَرَ فيها، أو يستبرِدونَ بعذوبةِ مياهِها، حيثُ كان الأهلُ والسكانُ يَصلونَ بالحرَمِ الإبراهيمي الشريفِ، ويجلبونَ معهم الطعامَ من تكيّةِ سيدِنا إبراهيم المجاوِرةِ للحرمِ، ويتسامرونَ على مقربةٍ من البِركة.
وبمرارةٍ، يُشيرُ المحتسبُ بإصبعِه إلى أكوامِ النفاياتِ والمخلفاتِ الصلبةِ، التي ترسو على جنباتِها؛ نتيجةً للإهمالِ وعدمِ ترميمِها والعنايةِ بها، داعيًّا كافةَ المؤسَّساتِ لإنقاذِ هذا المَعلمِ السياحي المُهمَلِ؛ نتيجةً لممارساتِ الاحتلالِ ومُخطَّطاتِه التهويديةِ، آمِلاً من المواطنينَ زيارتَها وعدمَ تركِها “تُصارعُ شبحَ الاستيطانِ…” فزيارتُها وزيارةُ البلدةِ القديمةِ ومعالِمِها التاريخيةِ يُعَدُّ نضالاً، وتحدِّيًا لسياسةِ الاحتلالِ الاستيطانيةِ”.
وقال خبيرُ الخرائطِ والاستيطانِ جنوبَ الضفةِ المحتلةِ، عبد الهادي حنتش:” إنَّ حكومة الاحتلالِ تسعَى ضِمنَ سياستِها لتهويدِ كلِّ المعالمِ السياحيةِ والتاريخيةِ والدينيةِ في البلدةِ القديمةِ من الخليلِ، حيثُ أغلقوا _عقبَ مجزرةِ الحرمِ الإبراهيمي_ شارعَ الشهداءِ الواصلَ إلى البِركةِ، وسوقَ الخضارِ القريبَ لها، و(250) مَحلًّا تجاريًّا، ونَصبوا الحواجزَ والأبراجَ العسكريةَ والبواباتِ الإلكترونيةَ، وأغلقوا المدرسةَ الإبراهيميةَ الملاصقةَ للبِركةِ؛ وذلكَ بِهدفِ منعِ المواطنينَ من الوصولِ إليها، وعَدُّوها من المَعالمِ التي تعودُ لأجدادِهم”.
سرقةُ إرثٍ
وطالبَ “حنتش” السلطةَ الوطنيةَ بإدراجِ كافةِ المَعالمِ التاريخيةِ والأثريةِ في البلدةِ القديمةِ ضِمنَ قائمةٍ محدّدةٍ، ومتابعتِها في مؤسسةِ “اليونسكو”، التي تُعنَى بالتراثِ العالميّ، ورفعِ القضايا على الجانبِ “الإسرائيلي” “الذي يَسرقُ تاريخَنا وإرثَنا الحضاري”.
ويُبيِّنُ المؤرّخُ “أبو تبانة” أنّ السلطانَ قلاوون نفّذَ مشاريعَ عمرانيةً وإصلاحيةً؛ مِثلَ عمارةِ الرباطِ المنصوري، وعمارةِ البيمارستان المنصوري، وترميمِ أحدِ مداخلِ الحرمِ الإبراهيمي، والوقفياتِ التي تحيطُ ببِركةِ السلطانِ.
ويشيرُ إلى أنّ السلطانَ ابنَ قلاوون؛ كان يَجمعُ الجِزيةَ من الذمِّيِّين المُقيمينَ في بيتَ لحم، وبيتَ جالا، والقدسِ والخليلِ، ويقومُ بتَرميمِ المباني والشواهدِ التراثيةِ والزوايا من هذه الأموالِ.
ومن أهم أهدافِ السلطانِ “سيفِ الدِّين بنِ قلاوون” من بناءِ بِركةِ السلطانِ؛ هو سقايةُ الجندِ المدافعينَ عن فلسطينَ، والمتواجدينَ دومًا لِصدِّ هجماتِ التتارِ والصليبيينَ .
كما وكان يهدفُ من بنائها إلى سقايةِ الحجيجِ القادمينَ من بلادِ الحجازِ عبرَ مصرَ، والمتوَجِّهينَ إلى بلادِ الشامِ، فكانت البِركةُ ملاذًا لهم ولجِمالِهم وقوافلِهم ومَواشيهم.
ويلفتُ “أبو تبانة” إلى أنّ المماليكَ ومهندِسيهم كانوا مُبدِعينَ في البناءِ والتصميمِ، حيثُ بنوا وأسَّسوا القنواتِ المحيطةَ ببِركةِ السلطانِ، والتي تُزوِّدُها بالماءِ القادمِ الذي كان يتدفقُ بغزارةٍ من مَصابِّ الجبالِ المحيطةِ، والعيونِ الكثيرةِ، والتي كان ينتهي المَطافُ بمائها بعدَ بِركةِ السلطانِ إلى وادي الخليلِ، وسهولِ غزةَ، ومناطقِ عَين جدي في الأغوارِ الفلسطينيةِ الجنوبيةِ .
مصدرُ حياةٍ
الحاج “رشدي المحتسِب”، أحدُ سكانِ حارةِ “السلايمة”، يَستذكِرُ الأيامَ التي كانت تشكّلُ البِركةُ فيها مصدرَ حياةٍ لسكانِ الحاراتِ، ويقولُ:” كان الجندُ والزوارُ يقِفونَ عندَ البِركةِ لسقايةِ مَواشيهم وخيولِهم، وكُنا نقضي مُعظَمَ الوقتِ في الاستجمامِ على درجاتِ البِركةِ، وكانت البِركة تشكّلُ مَجمَعًا لشبانِ الحاراتِ الخليليةِ في تلكَ الفترة.
في أعقابِ عمليةِ “الدبُّويا” التي قُتلَ فيها (6) مستوطنينَ عامَ (1984)، فرضَ الاحتلالُ سياسةً جديدةً على مدينةِ الخليلِ، وازدادَ الاستيطانُ فيها، وسيطرَ خلالَها على عشراتِ المواقعِ والمباني الأثريةِ والدينيةِ في الخليلِ، وأغلقَ الطرُقَ المؤدّيةَ إليها؛ من خلالِ فرضِ إغلاقٍ واسعٍ على قلبِ الخليلِ، وزادتْ عملياتُ بناءِ الأحياءِ اليهوديةِ في الخليلِ على حسابِ المباني الفلسطينية.
“بِركةُ السلطانِ” كانت إحدى أبرَزِ المباني التي سيطرَ عليها الاحتلالُ؛ ومنعَ الوصولَ إليها، ومنعَ أيَّ عملياتِ ترميمٍ وإعمارٍ فيها، ولم يكتفِ بذلكَ فقط؛ بلْ حوّلَ المستوطنونَ مجاري المياهِ العادمةِ الخاصةِ بالأحياءِ اليهوديةِ في الخليلِ إلى البِركةِ؛ ما أدَّى إلى تحويلِها إلى مَجْمَعِ نُفاياتٍ، ومصدرٍ للمياهِ العادمةِ والرائحةِ الكريهةِ؛ بفِعلَ المَجاري القادمةِ من المستوطناتِ.
فيما تعملُ جمعياتٌ استيطانيةٌ على إقامةِ حفلاتٍ دينيةٍ بالقربِ من البِركةِ؛؛ لِفَرضِ واقعٍ جديدٍ على المدينةِ وتهويدِها؛ من خلالِ تسهيلِ وصولِ المستوطنينَ إليها، فيما يَمنَعُ الاحتلالُ الفلسطينيِّينَ من الوصولِ لها بِحُجّةِ أنها تقعُ ضِمنَ منطقةٍ عسكريةٍ مُغلقة.
“بِركةُ السلطان” ليستْ وحدَها مَن تعاني الاستيطانَ، حالُها حالُ عشراتِ المواقعِ والمباني الأثريةِ التاريخيةِ والدينيةِ في المدينةِ، التي يعملُ الاحتلالُ على السيطرةِ عليها؛ في محاوَلةٍ لِطمْسِ الهويةِ الفلسطينيةِ، وترسيخِ الروايةِ الإسرائيليةِ التي تدَّعي أنَّ هذه المباني تشكِّلُ جزءًا من الحاراتِ اليهوديةِ، التي كانت في الخليلِ خلالَ الفترةِ العثمانيةِ.