شَلَلُ القرارِ خشيةَ الوقوعِ في خياراتٍ خاطئةٍ
الشبابُ ظروفُ الحياةِ ومُنَغِّصاتُها بغزةَ تُصادِرُ القدرةَ على اتخاذِ القراراتِ

تحقيق : السعادة
يعاني العديدُ من الأشخاصِ من تدَهورٍ في قدراتِهم على اتخاذِ القرارِ، ورُُبما يتدهورُ الحالُ لدرجةِ أنهم لا يستطيعونَ حتى اتّخاذَ القراراتِ الأساسيةِ في حياتِهم، ومن الطبيعيِّ أنْ تختلفَ قدراتُ البشرِ على اتخاذِ القراراتِ، بعضُهم يحسِمُ قرارَه بسرعةٍ كبيرةٍ، بينَما يحتاجُ آخَرونَ إلى مزيدٍ من الوقتِ، وهناكَ مَن يواجِهُ صعوبةً في اتّخاذِ القرارِ أمامَ خياراتٍ مُتاحةٍ أمامَه، وهو ما يُمكِنُ وَصْفُه بـ “شَلَل القرارِ”.
وأنْ تكونَ صاحبَ شخصيةٍ متردِّدةٍ؛ يعني أنّك تتساءلُ دومًا عن أفعالِكَ وتصرّفاتِكَ؛ الأمرُ الذي قد يكونُ جيدًا، وسيئًا في الوقتِ ذاتِه، فالتردُّدُ هو تأخيرٌ ناجمٌ عن شكٍّ في العقلِ، أو شعورٍ بالخوفِ”، فقد تَتردَّدُ قبلَ قَولِ أو فعلِ شيءٍ ما؛ خوفًا من إيذاءِ نفسِكَ والآخَرينَ، الأمرُ الذي يجعلُ من التردُّدِ سِمةً إيجابيةً تَدفعُكَ لإعادةِ التفكيرِ في تصرّفاتِكَ. لكنْ، تَرتبِطُ الشخصيةُ المُتردِّدةُ في الغالبِ بالنتائجِ والمُخرَجاتِ السلبيةِ؛ نظرًا لأنها ترتبطُ عادةً بمَشاعرَ؛ كالخوفِ، فقدانِ الثقةِ بالنفسِ، أو التفكيرِ الزائدِ عن حدِّه، والتي تؤثّرُ جميعُها بشكلٍ سلبيٍّ، فالكثيرُ من الأفكارِ اللامعةِ رُبما لم تَرَ النورَ بِسَببِ تُردُّدِ أصحابِها.
مُترَدِّدٌ ومُنعَدِمٌ
أشرف شنيورة(33) عامًا، يقولُ لـ ” السعادة:” اعتدتُ أنْ أكونَ صانعَ قرارٍ سريعًا وبَدَهيًّا، وجميعُ من يَعرفُني يَعرفُ أنني شخصٌ غيرُ مترَدِّدٍ، ولا مُتوَتِّرٍ.. دومًا لدَيَّ القدرةُ على التقريرِ والتحليلِ والتحكيمِ في كثيرٍ من الأحداثِ الخاصةِ والعامةِ، لكنني في الآوِنةِ الأخيرةِ أُصِبتُ بحالةِ تَجَمُّدٍ عندَ مُجرَدِ احتمالِ الاضطرارِ إلى اتخاذِ قرارٍ صغيرٍ، فقدْ مَررتُ ببعضِ التجاربِ الاجتماعيةِ التي جعلتْني مُترَدِّدًا ومُنعَدِمَ القدرةِ على اتخاذِ قراراتٍ، لاسيَّما وأنّ كثيرًا من الظروفِ الطارئةِ تتَدخّلُ في اللحظاتِ الأخيرةِ، لِتجعلَ قراركَ بائسًا، وفى غيرِ مكانِه بالمُطلَقِ.
في حين تقولُ نسرين العطار موظفة “31” عامًا:” إنّ عدمَ مَقدرتي على اتخاذِ القراراتِ _مَهما كانت صغيرةً_ تَجعَلُني دومًا مَحطَّ انزعاجٍ من أسرتي، وزوجي، وأصدقائي، وكافّةِ المحيطينَ، فقد وُلِدتُ بعدَ أقلَّ من عامٍ من ولادةِ شقيقتي، التي تَكبُرُني سِنًّا، وكنتُ أشعرُ أنّ جميعَ ما تقولُه، أو تختارُه، أو تشتريهِ، يُناسِبُني؛ لِذا لم تكنْ لديَّ الرغبةُ في أيِّ قراراتٍ _مَهما صغُرتْ_ لِشعوري الحقيقِ أنَّ قراراتَها صائبةٌ معي، ومعَ الوقتِ فقدتُ أيَّ قدرةٍ على التقريرِ، وباتَ كلُّ مكانٍ أشارِكُه معَ الآخَرين، هناكَ مَن يُقرِّرُ عني بكُلِّ رضًا مِنّي.
فزَوجي يقرّرُ عني بالمنزل، صديقاتي وزميلاتي يقرِّرنَ عني في العملِ، فيما تقرّرُ عائلتي عني في كلِّ المحافلِ، والحقيقةُ أني حاولتُ أنْ أقرِّرَ في كثيرٍ من المراتِ، خاصةً في ظِلِّ المشاكلِ الزوجيةِ التي تعرّضتُ إليها، وانزعاجِ زوجي من غيابِ رأيِّي حتى في أموري الخاصةِ، إلاّ أنني وللأسفِ، لا أملكُ شجاعةَ القرارِ بالمُطلَقِ، ودومًا لدَيَّ قناعةٌ أنَّ ما أقرِّرُه بعيدٌ عن الصوابِ.
فيما يقولُ علاء عبد الرحمن “29” عامًا : إنّ روتينيةَ الحياةِ في الآوِنةِ الأخيرةِ، صادرتْ أيَّ رغبةٍ لدَيهِ في اتّخاذِ القراراتِ، بعدَ مرورِه بِعِدّةِ تَجارِبَ صعبةٍ ومُتعِبةٍ، كان هو صاحبَ القرارِ فيها، لكنْ للأسفِ لم تَجنِ أيَّ نجاحاتٍ بالمُطلَقِ، وكانت من أسوأِ القراراتِ التي مرّت عليه في حياتِه.
صعيدٌ آخَرُ
ويضيفُ: تقدّمَ أحدُ الأشخاصِ للزواجِ بأختي، وضغطتُ باتّجاهِ الموافقةِ عليه؛ كَوني على معرفةٍ به، وللأسفِ لم يمُرّ ثلاثُ شهورٍ حتى ندمتُ على قراري ندمًا شديدًا، وكان ثمنُ القرارِ طلاقَ أختي، وهي في مُقتَبَلِ العمرِ، وعلى صعيدٍ آخَرَ قرَّرتُ العملُ في التجارةِ الإلكترونيةِ، وبذلتُ مجهودًا جبارًا في إقناع زوجتي، وللأسفِ خسرتُ ما أملكُ من مالٍ لي ولزوجتي، وكثيرةٌ هي القراراتُ التي أكونُ قد قمتُ بدراستِها بشكلٍ كاملٍ؛ لكنْ للأسفِ تكونُ قراراتٍ خاطئةً تُصيبُني بالندمِ الشديدِ، حتى قرّرتُ أنْ أنعزلَ عن أيِّ قرارٍ، وعادةً ما أرَدِّدُ لكُلِّ شخصٍ ينتظرُ مني قرارًا، كلمةَ “اللي بتشوفه مناسِب”.
من جانبِها، تقولُ الدكتورة حِكمتْ عليانِ المصري:” إنّ عدمَ القدرةِ على اتخاذِ القراراتِ، أو ما يُعرَفُ عِلميًّا باسمِ “شَلَلُ القرارِ”، خشيةَ الوقوعِ في الخيارِ الخاطئِ، يعودُ لعِدّةِ أسبابٍ؛ أبرزُها وجودُ خياراتٍ عدّةٍ في حياةِ الفردِ، تصعبُ المقارنةُ بينَها لاختيارِ ما هو مناسبٌ لوَضِعه وبيئتِه ومعتقداتِه، لاسيّما وأنّ كثيرينَ ليس لديهِم المهاراتُ اللازمةُ كالتفكيرِ الإبداعي والناقدِ، اتّخاذِ القراراتِ، وحلِّ المشكلاتِ؛ بسببِ نمطِ تربيةِ الفردِ في بيئةِ الأسرةِ والمدرسةِ والجامعةِ، وخبراتِ العملِ، وعلاقاتِه الاجتماعيةِ على المستوى العائليّ والمِهنيّ والدراسيّ.
وتضيفُ: إنَّ من أهمِّ أسبابِ “شللِ القرارِ” عدمَ تربيةِ الأبناءِ على الاستقلاليةِ في التفكيرِ وتطويرِه منذُ مرحلةِ الطفولةِ إلى مرحلةِ الرُّشدِ، والتدخّلَ الدائمَ في حياةِ الأبناءِ، والحمايةَ الزائدةَ لهم، ما يؤثّرُ سلبًا في حياةِ أبنائهم عندَ اتخاذِ قرارِ الزواجِ، وهناكَ مجموعةٌ من الصوَرِ السلبيةِ لعدمِ استقلاليةِ الأبناءِ، مِثلَ لجوءِ الأهلِ إلى فرْضِ قيودٍ على طريقةِ عيشِ أبنائهم، وتحديدِ شكلِ الحياةِ التي يجبُ أنْ يعيشَ بها الابنُ أوِ الابنةُ، وعدمِ السماحِ للزوجينِ الجُددِ باتخاذِ قراراتٍ خاصةٍ في حياتِهم الزوجيةِ، فيخوضانِ خبراتٍ سلبيةً، ويعيشانِ في صراعٍ دائمٍ بينَ إرادتِهما وإرادةِ الأهلِ.
وتنصحُ “المصري” فئةَ الشبابِ من الذكورِ والإناثِ، من عُمرِ الـ (18)، بالالتحاقِ بدوراتٍ تدريبيةٍ تساعدُهم على اكتسابِ خبراتٍ جديدةٍ في طرُقِ التفكيرِ، والقيادةِ، وحلِّ المشكلاتِ، والتي سيكونُ لها الأثرُ الإيجابيُّ في حياتِهم على مستوى علاقاتِهم الاجتماعيةِ والأسريةِ والمِهنيةِ.
وتضيفُ: “هنا، لا نبحثُ عن المثاليةِ في العلاقاتِ، ولكنْ عندَ تسليحِ الشبّانِ بمهاراتٍ جديدةٍ؛ سيكونونَ قادرينَ على إدارةِ أمورِهم داخلَ منظومةِ العائلةِ، مع عدمِ السماحِ للتدخُلاتِ من أيِّ طرَفٍ، ووضعِ حواجزَ تحمي العائلةَ من صدماتٍ أو تدخُلاتٍ خارجيةٍ”.
مبادرةٌ وشجاعةٌ
فيما يرى “مؤمن عبد الواحد”، خبيرُ التنميةِ البشريةِ، أنّ التغلُّبَ على عدمِ القدرةِ على اتخاذ القرارات، يتطلّبُ أولاً الاعترافَ بالمشكلةِ، ثُم البحثَ عن أسبابِها، والسبُلِ الناجعةِ للخروجِ منها نهائيًّا، وعدمِ تكرارِ الأخطاءِ ذاتِها مستقبَلاً، وفي بعضِ الحالاتِ، يكونُ سببُ إخفاقِ الشخصِ في اتخاذِ القرارِ هو الخوفُ من النتائجِ، وبما أنَّ بعضَ القراراتِ لها نتائجُ سلبيةٌ، فإنه يُفضَّلُ عدمُ اتخاذِ أيِّ قرارٍ، معتقِدًا أنّ هذا أحسنُ له، في حين أَّ عدمَ الشجاعةِ في اتخاذِ القرارِ قد تكونُ لها السيئاتُ ذاتُها لاتخاذِ القرارِ، وتحمُّلِ نتائجِه، لأننا نتعلّمُ من التجربةِ، وليس من مجرّدِ التفكيرِ، كما أنّ الندمَ على عدمِ اتخاذِ القرارِ قد يكونُ مؤلِمًا، وقد يدومُ طويلا”.
وتضيفُ: “المُهم أنْ نعرفَ أنفُسَنا، وماذا نريدُ، وما الذي يُسعِدُنا فنُقدِمُ عليه، أو يُحزِنُنا فنَبتَعِدُ عنه، ثُم نُرتّبُ أولَويّاتِنا، ونَصدُق في تعاملاتِنا، ونضعُ تقوَى اللهِ أمامَ أعيُنِنا، ثُمَّ نتوَكَّلُ عليه لأنه على كلِّ شيءٍ قديرٍ. وهنا، أنصحُ بالاستخارةِ، وجمعِ المعلوماتِ الصحيحةِ، وتحليلِها، واستخدامِ الذكاءِ والإلهامِ الروحي والذاتي، فنَتَقبَّلُ بعدَها كلَّ النتائجِ ونتقدّمُ إلى الأمامِ مَهما حدثَ، فالحياةُ تحتاجُ إلى مبادرةٍ وشجاعةٍ، وإلّا لن نتذوّقَ متعةَ أيِّ مغامرةٍ في حياتِنا”.
وبحسبِ موقعِ “فوريكاست” (forecast) فإنّ هناكَ عدّةَ آثارٍ لسلبيةِ “شلَلِ القرارِ”، فالإخفاقُ في اتّخاذِ القراراتِ المناسبةِ له عواقبُ عدّةٌ على أرضِ الواقعِ، منها انخفاضُ الإنتاجيةِ والتأخير: يُمكِنُ أنْ يؤدي تأخيرُ اتخاذِ القرارِ، أو الإخفاقُ في اتخاذِ القراراتِ تمامًا، إلى تأخيرٍ في العملِ. إذا كنتُ تماطِلُ بشكلٍ متكرّرٍ، وتؤخُّرُ العملَ، فأنت لستَ مُنتِجًا، وقد يترتبُ على ذلكَ نتائجُ خطيرةٌ، لاسيَّما عندما يعتمدُ عملُ الآخَرينَ على قرارِكَ.
علاوةً على اعتلالِ الصحةِ النفسيةِ: فقد يكونُ لـ “شللِ القرارِ” تداعياتٌ على صحتِكَ العقليةِ، إذْ ليس لدَينا قوةُ إرادةٍ عظيمةٍ، كما أنّ إنفاقَ وقتٍ طويلٍ على اتخاذِ القراراتِ، قد يكونُ مُرهِقًا عقليًّا ونفسيًّا، ثُم إنّ الإفراطَ في التفكيرِ يقلِّلُ من التفكيرِ الإبداعي: في كثيرٍ من الوظائفِ، تُعدُّ القدرةُ على التفكيرِ الإبداعيّ أمرًا ضروريًّا لنجاحِكَ، والإفراطُ في التفكيرِ يقلّلُ من قدراتِكَ الإبداعيةِ.