احترِموا عقولَ النَّاس .. فهُم ليسوا حميرًا!
ذهبَ فلّاحٌ لجارِه يطلبُ منه حَبلاً لكي يربطَ حمارَه أمامَ البيتِ؛ فأجابَه الجارُ بأنه لا يملكُ حَبلاً؛ ولكنْ أعطاهُ نصيحةً، وقالَ له: “يُمكِنُكَ أنْ تقومَ بنفسِ الحركاتِ حولَ عُنقِ الحمارِ؛ وتتظاهرَ بأنكَ تربطُه، ولن يبرحَ مكانَه”.
استغربَ الفلاحُ من حديثِ الجارِ، ولكنّه عملَ بنصيحتِه، وفي صباحِ اليومِ الثاني وجدَ الفلاحُ حمارَه في مكانِه تمامًا، ولم يتحرّكْ، ولم يهرُبْ.
ربَّتَ الفلاحُ على ظهرِ حمارِه، وأرادَ الذهابَ به إلى الحقلِ؛ ولكنّ الحمارَ رفضَ التزَحزُحَ من مكانِه!
حاولَ الفلاحُ بكُلِّ قوَّتِه أنْ يُحرّكَ الحمارَ؛ ولكنْ دونَ جَدوَى، حتى أصابَ الفلّاحَ اليأسُ من تَحرُّكِ الحمارِ، فعادَ إلى جارِه يطلبُ نصيحتَه، فسألَه: “هل تظاهرتَ للحمارِ بأنكَ تحلُّ رباطَه؟”، فردَّ عليه الفلاحُ باستغرابٍ: “ليس هناكَ رباطٌ أصلاً”.
أجابَه جارُه: “هذا بالنسبةِ لكَ؛ أمّا بالنسبةِ للحمار؛ِ فالحبلُ موجودٌ، ومربوطٌ على عُنقِه”، عادَ الرجلُ وتَظاهرَ بأنه يفُكُّ الحبلَ، فتحرّكَ الحمارُ مع الفلاحِ دونَ أدنَى مقاوَمةٍ!
انتهتْ القصةُ، ولكنّ دلالاتِها لا ولم ولن تنتهيَ، وقد يَسخرُ البعضُ من هذه القصةِ، أو من ذاكَ الحمارِ، ولكنْ أريدُ أنْ أقولَ؛ أنّ بعضَ الناسِ أيضًا قد يكونوا مِثلَ هذا الحمارِ؛ أسرَى لعاداتٍ أو لِقناعاتٍ وهميةٍ تُقيّدُهم إلى حدِّ الغباءِ، ولا يكونُ عليهم إلّا أنْ يكتشِفوا الحبلَ الخفيَّ الذي يلتَفُّ حولَ “عقولِهم”، ويمنعُهم من التقدُّمِ إلى الأمامِ، هؤلاءِ هم الذين يبيعونَ عقولَهم وفَهمَهم إلى الآخَرينَ دونَ أدنَى احترامٍ لأنفسِهم أو لِمَقدرتِهم.
إنَّ المطلوبَ منّا ليلَ نهارَ؛ هو تفهيمُ الناسِ وتشجيعُهم على احترامِ عقولِهم وأنفُسِهم؛ لأنهم قد يكونوا أذكَى من “أوليائهم” أنفُسِهم، وأنه ينبغي عليهم أنْ يتوَقَّفوا عن تأليهِ الآخَرينَ؛ لأنّ ذلكَ كُلَّه يُعَدُّ دربًا من دروبِ الفسادِ الفكري والاجتماعي، وكم أدخلتْ هذه الأساليبُ مجتمعاتِنا في مشكلاتٍ لها أوَّلُ، وليس لها آخِرُ، وهَوتْ بنا في حضيضٍ مظلِمٍ، والأدهَى من ذلكَ هو السكوتُ عن مِثلِ هذه الحالاتِ؛ ما قد يُفاقِمُ المشكلةَ.
العالَمُ تَطوّرَ ودخلَ مراحلَ متقدّمةً من التكنولوجيا والبرمجةِ والثورةِ الفكريةِ؛ وهذا يدعونا إلى الحديثِ عن أهميةِ تحريرِ العقولِ والأفهامِ من دَنسِ التبعيةِ والتطبيلِ والتسحيجِ؛ إلى فساحةِ حريةِ الرأيِ، واستقلاليةِ القرارِ، وموضوعيةِ الطرحِ والمنهجِ والقياسِ، ويدفعُنا إلى تَبنّي الفكرِ الحضاري، الذي يقومُ على مبدأِ احترامِ عقولِ النّاسِ، وتَرْكِهم يفكّرونَ بطريقتِهم وبساطتِهم وعفويَّتِهم، والابتعادِ عن مبدأِ العوجِ والتعصُّبِ وقِلَّةِ القيمةِ.