“الظاهريةُ” منازلُ أثريّةٌ تروي حكاياتِ شموخٍ
إصرارٌ على التمَسُّكِ بالأرضِ وتَحدّي الاستيطانِ

السعادة
في أقصى جنوبِ الضفةِ الغربيةِ، كانت تَترَبَّعُ المدينةُ الكنعانيةُ القديمةُ “جوشن”، والتي عُرفتْ لاحقًا باسمِ “الظاهرية”، نِسبةً إلى “الظاهرِ بيبرس” الذي رأى في مَوقِعِها، مكانًا استراتيجيًّا عملَ على تحصينِه، تَبعُدُ بلدةُ الظاهريةِ عن الخليلِ نحوَ (23) كيلومترًا، فيها نحوُ (2.5%) من تراثِ فلسطينَ المِعماريّ، تمَّ ترميمُ عددٍ كبيرٍ من هذه المباني التراثيةِ .
وتُعَدُّ “الظاهرية” حلقةَ وصلٍ بينَ مُدنِ الداخلِ المحتلِّ جنوبيَّ فلسطينَ، ومدينةِ الخليلِ التي تُعَدُّ سوقًا ومقصدًا تجاريًّا، ولكنّ “الظاهرية” لا تستفيدُ من هؤلاءِ المارّينَ بها سياحيًّا.
يوجدُ في الظاهريةِ الكثيرُ من المواقعِ الأثريةِ القديمةِ، منها ما يعودُ للعهدِ الروماني؛ لكنّها تُعاني عزوفًا من السيّاحِ عن زيارتِها! كما تَضمُ أراضي البلدةِ العديدَ من القرى الصغيرةِ المأهولةِ بالسكانِ، أهمّها: شويكة، عناب (الصغيرة والكبيرة)، الدوحة، البيرة، والدير.
تحيطُ بالبلدةِ مجموعةٌ من الخرائبِ التي تحتوي مواقعَ أثريّةً، أهمُّها: كفرجول، الرأس، ديرُ اللوزِ، أمُّ صير، تتزيت، الرهوةُ، الجعبري، عسيلة، بدغوش، جوى، دير الهو، دير سعيدة، عتير، أم الديمنة، التل، تل عراد، طبخانة، رجوم، بيت القصر، أم نخلة، أم العمد، الرابية.
وفي الجزءِ الجنوبيّ تحديدًا، تتربّعُ البلدةُ القديمةُ من “الظاهرية” التي تحوي نسيجًا معماريًّا مكوَّنًا من نحوِ (972) مبنًى قديمًا، يفصلُ بينَ شِقيّها الشارعُ الرئيسُ، منها (32) مبنىً أثريًّا تتنوّعُ بينَ (حصنٍ، مسجدٍ، كنيسةٍ، مقامٍ، قلعةٍ، وقصرٍ)، يعودُ تاريخُها لِما قبلَ عامِ ( 1700) للميلادِ.
بلدةٌ أثريّةٌ
الأبنيةُ التراثيةُ والأثريةُ في البلدةِ، تتوزّعُ على عدّةِ حاراتٍ وأزِقةٍ، ومنها: حارةُ وسطِ البلدِ، أبو الروازن، والقيصريةِ (نسبةِ للقصرِ الموجودِ فيها)، وعقبةِ الحامضِ.
تتوزّعُ هذه الحاراتُ إلى عدّةِ أحواشٍ للعائلاتِ الساكنةِ فيها، حوشُ الرباع الذي أصبح جزءٌ منه مقهىً مع ساحةٍ عامةٍ كبيرةٍ، و”حوشُ دارِ الطل” الذي يتوسّطُ منطقةَ الخوخةِ، وتَحدُّه من الشمالِ منطقةِ الحِصنِ، والسوقِ التجاري جنوبًا، والذي يتميّزُ بتصميمِه، وجمالِ تكوينِه.
ويَظهرُ في ثنايا هذا النسيجِ التاريخيّ مجموعةٌ من السقايف، والمغاراتِ، والطوابينِ التقليديةِ، عَدا عن عددٍ من المقاماتِ، كمقامِ أبو خروبة، والمسجدِ العُمري، ومقامِ أبو الفصل، ومقامِ الغماري، ومقبرةِ ومقامِ أبو دبّور.
استخداماتُ هذه التشكيلاتِ المعماريةِ متنوّعةٌ، فمنها ما كان يستخدمُ كمضافاتٍ أو دواوينَ، وجوامعَ، ومنها ما كان مدرسةً وعصّاراتٍ للزيتونِ (البدود)، بالإضافةِ لاستخدامِها كمَساكنَ ودكاكينَ، كما ويظهرُ في ثنايا هذا النسيجِ التاريخيّ مجموعةٌ من السقايفِ والمغاراتِ والطوابينِ التقليديةِ، عدا عن عددٍ من المقاماتِ؛ كمقام أبو خروبة، والمسجد العمري، ومقام أبو الفصل، ومقام الغماري، ومقبرة ومقام أبو دبور.
ومن المباني الأثريةِ الموجودةِ في الظاهريةِ؛ حصنُ القيسرية الروماني، الموجودُ وسطَ البلدةِ، والذي تشيرُ بعضُ التقديراتِ إلى أنّ عُمرَه يصِلُ ألفَيّ عامٍ، حيثُ كان يُستخدَمُ كقاعدةٍ عسكريةٍ في زمنِ الإمبراطوريّةِ الرومانيّةِ، وهو عبارةٌ عن سورٍ مكوّنٍ من حجارةٍ ضخمةٍ ومشذّبةٍ جيّدًا، بحَسبِ ما وردَ في تقريرٍ لبلديةِ الظاهريةِ، ويُعَدُّ من أبرزِ المعالمِ في البلدةِ القديمةِ، بمساحةِ (540) مترًا مُربّعًا، ويتكونُ من طابقَينِ وساحةٍ مستطيلةٍ.
المتجولُ بينَ أزِقةِ البلدةِ القديمةِ؛ سيُلاحظُ الانسجامَ بينَ مبانيها، والرتابةَ، حيثُ تتلاصقُ الأحواشُ مع بعضِها، وتتوحّدُ الدكاكينُ في صفٍّ واحدٍ في منطقةِ السوقِ القديمِ، ويغلبُ الشكلُ شِبهُ الكرويّ على أسقُفِ المباني فيها.
أمّا تحتَ أرضِ تلكَ البلدةِ؛ فيظهرُ انتشارُ الكهوفِ والمغاراتِ التي سُكنتْ منذُ آلافِ السِّنين، وهُنا يدعو مديرُ البلديةِ الجهاتِ المختصّةَ لاستكشافِ تاريخِ هذه المغاراتِ والكهوفِ، والتنقيبِ عن آثارِها.
المُسِنّ “محمد هوارين”، الذي طوَى (78) عامًا من سنواتِ عمرِه، يسترجعُ ذكرياتِ طفولتِه في بلدتِه القديمةِ؛ حينَ كانت مقرًّا لعددٍ من السُّلطاتِ التي حكمتْ فلسطينَ قبلَ الاحتلالِ الإسرائيلي، حينَ كانت تَتّخِذُ من “المقاطعةِ_ مقرّ شرطةِ الظاهريةِ حاليًا_ مقرًّا لها. ولا ينسَى “جنودُ الإنجليزِ” وهم يتجوّلونَ في بلدتِه ركوبًا على الأحصنةِ، بحثًا عن “مطلوبينَ”.
وتشيرُ وزارةُ السياحةِ إلى عددٍ من الأديِرةِ والكنائسِ التي تدلُّ على عشراتِ القرى البيزنطيةِ المسيحيةِ التي كانت في تلكَ المنطقةِ، ومن أبرزِها كنيسةُ “عنّاب” الكبيرةِ والصغيرةِ، ورجم اجريدة في منطقةِ الدَّيرِ وسطَ المدينةِ.
وتحتوي “الظاهرية” على عدّةِ خِرَبٍ أثريةٍ أيضًا، كخِربةِ زنوتا، وخربةِ عنّابِ الكبيرةِ نسبةً إلى القريةِ الرومانيةِ، التي احتوت بقايا مدينةٍ وكنيسةٍ، وجدرانٍ وبُرجِ حراسةٍ، تمَّ تحويلُه إلى جامعٍ إسلاميّ في فترةٍ ما، بالإضافةِ إلى مَعاصِرَ.
وبالرغمِ من إدراجِ “الظاهرية” ضِمنَ مسار إبراهيم الخليل (مسارٍ سياحيٍّ من شمالِ جنين، إلى المسجدِ الإبراهيمي بطولِ (321) كيلومتر)؛ إلَّا أنَّ الوَجهَ السياحي للظاهريةِ لم يتضِحْ بعدُ، فالبلدةُ بحاجةٍ لبرامجِ جذبٍ للسيّاحِ والزوّارِ، الذين لا يتجاوزُ عددُهم الألفَ سنويًّا، ويرتادونَها بهدفِ البحثِ والاستكشافِ، وفقَ “عزمي رضوان” مديرِ البلدية.
وخَصّصتْ البلديةُ أحدَ المباني المُرَمَّمةِ في البلدةِ القديمةِ، كَنُزلٍ للباحثينِ والزوّارِ، يَجِدونَ فيه أبسطَ ما يحتاجونَ خلالَ زيارتِهم.
تقولُ إحدى الزائراتِ للقريةِ؛ إنّها فوجئتْ بالمباني والآثارِ التاريخيّةِ الموجودةِ، مشيرةً إلى أنّ “الظاهرية” لا تقِلُّ أهميّةً سياحيةً وتاريخيّةً عن مناطقَ في بيتَ لحم، والخليلِ، والقدسِ.
وكَمُبادرةٍ لإحياءِ هذه المباني القديمةِ، تَتّخِذُ عددٌ من المؤسساتِ الحكوميةِ والأهليةِ والخاصةِ منها مقرّاتٍ لإنعاشِ الحركةِ فيها، بعدَما هجرَها عددٌ من سكانِها؛ وانتقلوا إلى أطرافِ المدينةِ، فتَجِدُ فيها مقرًّا للمحكمةِ الشرعيةِ، ومديريةِ الداخليةِ، وشركةِ الكهرباءِ، وجمعيةٍ للمعاقينَ وغيرِها.
“حاتم الجبارين” يقول: “إنّ الحركةَ السياحيةَ في البلدةِ ليستْ نشِطةً، وإنها بحاجةٍ لعملٍ جادٍّ لجذبِ السياحِ، ويجبُ تسهيلُ فتحِ المحلاتِ القديمةِ من قِبَلِ البلديةِ؛ لِجَذبِ المواطنينَ للشراءِ منها، وأيضًا عملِ مهرجاناتٍ شعبيةٍ ووطنيةٍ دوريةٍ.
أمّا “رأفت رباع”، صاحبُ مقهىً في البلدةِ القديمةِ، يقولُ :”إنّ الزوّارَ من خارجِ البلدةِ قليلونَ جدًّا، ولا يوجدُ لوحاتٌ إرشاديةٌ وتعريفيةٌ تدلُّ على مكانِ وجودِ البلدةِ القديمةِ، ويجبُ على المسؤولينَ التعريفَ والمحافظةَ على البلدةِ، وجذبَ السياحِ لها”
مديرُ مديريّةِ وزارةِ السياحةِ في الخليلِ “أحمد الرجوب”،تحدَّثَ: إنّ وزارتَه تضعُ مجموعةَ خُططٍ وإجراءاتٍ لتنشيطِ السياحةِ في محافظةِ الخليلِ، والتي تقعُ ضِمنَ المُربّعِ السياحيّ الذهبيّ، الذي يشملُ أيضًا القدسَ، بيتَ لحم، وأريحا.
أمّا بخصوصِ جنوبِ الخليلِ والظاهريةِ تحديدًا، فيقولُ: الوزارةُ عَقدتْ اتّفاقيةً مع الفرنسيّينَ، لتطويرِ السياحةِ في الظاهريةِ، وعِدّةِ مناطقَ في محيطِها تابعةٍ لِدُورا، مِثلَ بيتَ مرسم، والبُرجِ، ورابودِ، وتستمرُّ لثلاثِ سنواتِ.
ورغمَ جمالِ وتاريخِ البلدةِ؛ إلاّ أنّ ذلكَ لم يُمَكِّنْها من أنْ تكونَ مقصدًا سياحيًّا، فهذه الآثارُ التي تروي الكثيرَ من القصصِ، لا تَجِدُ آذانًا صاغيةً لسماعِ قصصِها، فالحركةُ السياحيةُ فيها تَكادُ تكونُ شِبهَ معدومةٍ.
وفي حديثٍ معَ مديرِ العلاقاتِ العامةِ في بلديةِ “الظاهرية” أحمد قيسية “:إنّ وجودَ البلدةِ القديمةِ هو ما يُميّزُ “الظاهرية”، وإنّ البلديةَ بِصَددِ إعادةِ الحياةِ للمنطقةِ من أجلِ جذْبِ السياحِ، وفتحِ بعضِ المؤسَّساتِ فيها.
وأوضحَ “قيسية”: إنّ الحركةَ السياحيةَ بدأتْ بالتحَسُّنِ، بَعدَ خُطَطِ البلديةِ، وقيامِها بفَتحِ بيتِ ضيافةٍ في البلدةِ القديمةِ؛ لِكُلِّ من يرغبُ بالإقامةِ فيها، آمِلاً أنْ تَتحسَّنَ الحركةُ السياحيةُ في البلدةِ قريبًا.