استَشِعرْ النِّعَمَ حتى تدوم
يَحصلُ أنْ نتذَمَّرَ من حياتِنا الاعتياديةِ، نشتكي الروتينيةَ، ندَّعي الملَلَ، نُغمُِض أعيُنَنا عن النعمِ التي تحيطُ بنا، لا نشعرُ بقيمةِ البيتِ والعيلةِ والدفءَ والسترِ والصحةِ والعملِ، نتعاملُ معها كأنها واقعٌ فُرِضَ علينا، لا نُعِيرُه من الحمدِ والشكرِ كما ينبغي.. لِيَدومَ.
يبدو أنّ الاعتياديةَ الحياتيةَ تَحوّلتْ لروتينٍ نتَذَمَّرُ منه، وَتناسَينا أنه في حدِّ ذاتِه حياةٌ تنبضُ بالنّعمِ، تُشعِرُنا بذاتِنا وقيمتِنا، وتُحقّقُ رغباتِنا، فلماذا لا نَنظُرُ لحياتِنا بِعَيِن الرضا؛ برغمِ كلِّ ما يحيطُ بنا من مُنغِّصاتٍ وظروفٍ؟ لماذا لا نستَشعِرُ نعمةَ ذهابِنا لوظائِفنا، وكأنها أصبحتْ عِبئا علينا؟ لماذا لا نُقَدِّرُ دِفءَ البيتِ، ولَمّةَ العيلةِ حولَنا، وغيرُنا حُرمَ منها؟، ما المانعُ لو ابتَسَمْنا في وجوهِ أبنائنا وأحبابِنا بكُلِّ حُبٍّ، وتأمَّلْنا ملامِحَهم؟ فنحن لا نعرِفُ متى يأتي يومٌ بِدُونِ ملامحِهم وأصواتِهم!
فُجأةً وبدونِ سابقِ إنذارٍ، حياةُ الآلافِ من البشرِ تتحوّلُ إلى دمارٍ خرابٍ وفقدٍ..! فُجأةً تَتغيّرُ ملامحُ الحياةِ الاعتياديةِ التي عاشوها، وهم كارهونَ لها، فُجأةً ذهبَ كلُّ شيءٍ؛ البيتُ، وسُكّانُه، وذِكرياتُه، وملامِحُه .. فجأةً كلُّ التفاصيلِ اليوميةِ اختفتٍ؛ وحلّتْ محِلَّها حياةُ الخوفِ والوجعِ والقهرِ والبحثِ، فجأةً كلُّ شيءٍ تَغيَّرَ…
لا شيءَ مضمونٌ، لا الحياةُ ولا الأشخاصُ ولا حتى الروتينُ والمَلَلُ، كلُّ شيءٍ قابلٌ للتغيِّيرِ والتبديلِ، فالحياةُ أقصرُ ممّا نتَخيّلُ، لا يوجدُ فيها مُتَّسَعٌ للشكوَى والتذَمُرِ والكُرهِ. اليومُ الذي يأتي عليكَ، وأنتَ بكاملِ صحتِكَ وعملِكَ، ووسطَ عائلتِكَ؛ لا يُعوَّضُ.. فاحْمَدِ اللهَ على تلكَ النّعمِ، حتى لا تخسرَها، واستَشعِرْ جمالَها حتى لا تَفقِدَها.
جميعُنا بكَينا وحُرِقتْ قلوبُنا؛ ونحن نشاهدُ ضحايا الزلزالِ، ورائحةُ الموتِ تنتشرُ في كلِّ مكانٍ، البكاءُ والعويلُ سيِّدُ الموقفِ، البحثُ عن الأهلِ والأحبابِ لا يتوقفُ، لا شيءَ يُمِكنُ أنْ يوقِفَ الخرابَ والموتَ حينَ يَحُلُّ، بلَمحِ البصرِ انقلبتْ الحياةُ من الأمانِ والاستقرارِ إلى الخرابِ والدمارِ.
وأبعَدُ من كلِّ ذلكَ؛ أيحِقُّ لنا أنْ نتذّمرَ على حياةٍ يتمنَّى الآخَرونَ رُبعَها! يلهثون ليُوَفِّروا لقمةُ خبزٍ، أو شَربةَ ماءٍ، أو بطانيةً .. يلهثونَ ليَجدوا جدرانًا تسترُهم؛ حتى لو خلَتْ من مُقوِّماتِ الحياةِ، فَقدَوا الملجأَ والمَأوَى والأهلَ والأحبةَ، أصبحوا بلا شيءٍ.. عُمرٌ بأكمَلِه ذهبَ؛ ولم يتبقَ إلّا بقايا ذكرياتٍ مُبَعثَرةً .
تمَعّنْ بكُلّ تَفاصيلِ حياتِكَ؛ استَشعِرْ بها قبلَ أنْ تصبحَ ذكرياتٍ لا تَعودُ، تمَعّنْ بوجوهِ عائلتِكَ، واحفَظْ ملامِحَها، واشْبَع منها قبلَ أنْ يأتيَ اليومُ الذي لا رجوعَ فيه، عِشْ حياتَكَ مع عائلتِكَ وأحبابِكَ، وتَمتّعْ بكُلِّ لحظةٍ معهم، فالحياةُ لا تنتظرُ أحدًا.