
نَمرُّ بظروفٍ عصيبةٍ وضغوطاتٍ كثيرةٍ؛ تجعلُنا نعيشُ عواصفَها، وتنعكسُ على سلوكياتِنا داخلَ المنزلِ، ومع أطفالِنا، وقد نُخطئُ ونَظلمُ أطفالَنا نتيجتَها؛ ثُم نكتشفُ بعدَ ذلكَ؛ أنه ليس لهم علاقةٌ بالأمرِ، ولكنْ بعدَ فواتِ الأوانِ، فقدْ يكونون قد تعرّضوا للمَهاناتِ والضربِ والتوبيخِ، وسلسلةٍ من العقوباتِ التي تُبدِعُها العائلاتُ من أجلِ تهذيبِ أبنائها، بعضُ الآباءِ يقفُ حائرًا بينَ أنْ يعتذرَ لطفلِه، أو لا يعتذرُ.
إذْ يتردّدُ بعضُ الآباءِ في التعبيرِ عن أسفِهم؛ إذا لاحظوا أنهم أخطأوا في حقِّ أبنائهم، في حين تغيبُ ثقافةُ الاعتذارِ عن الكثيرِ من الأسرِ في مجتمعاتِنا العربيةِ؛ حيثُ يرى آباءٌ كُثُر أنّ الاعتذارَ من أبنائهم _مَهما كان حجمُ الظلمِ الذي يسلَّطُ عليهم_ أمرًا معيبًا يمَسُّ من سُلطتِهم وهيبتِهم داخلَ المنزلِ.
لا اٌقولُ “آسِف”
علاء أبو جمعة (44 سنة) يقولُ لـ ” السعادة”:” عصبيّتي الشديدةُ تجعلُني في بعضِ الأحيانِ أخطئُ في حقِّ ابني؛ بسببٍ وبدونِ سببٍ، وبِدَورِه يسكتُ ابني؛ ولا يستطيعُ التفوُّهَ بكلمةٍ من شدّةِ خوفِه مني، لكنّي في كلِّ مرّةٍ أكتشفُ أنني المُخطئُ في الموقفِ الذي وَبَّختُه عليه، واكتشفتُ أنه المظلومُ فيه».
ويضيفُ: «في بعضِ الأحيانِ، أعتذرُ منه؛ ولكنْ لا أنطقُ بكلمةِ “آسف”؛ بل بطريقةٍ غيرِ مباشِرةٍ أوضِّحُ أنني أخطأتُ بحقِّه، وأحيانًا كثيرةً أشعرُ أنني قلّلتُ من قَدْري أمامَ ابني؛ وقد يسبّبُ الاعتذارُ المُكَرَّرُ له؛ أنْ يعتادَ على ذلكَ، أو يعتادَ على أنني على خطأ.
في حين يرفضُ “أبو سمير الحلو” الاعتذارَ لأبنائه فيقولُ:” جيلُ هذه الأيامِ لا يستحقُّ أنْ نعتذرَ منه؛ فهو جيلٌ متفتّحٌ، ولا يهابُ الأبَ أو الأمَّ، ورغمَ تأكُّدي أنني أخطأتُ بحقِّ ابنتي كثيرًا؛ إلّا أنّ ذلكَ ليس مبرِّرًا لأنْ أعتذرَ منها، وخاصةً أنها تبلغُ من العمرِ (15) سنةً فقط».
ويضيفُ: “أحيانًا كثيرةً تَجدُ قولي لها “أنا آسِفٌ”، واعتذاري منها؛ أني شخصيةٌ ضعيفةٌ؛ وهذا ما لا أريدُ أنْ تفكّرَ به». ويذكرُ موقفًا شعرَ بالندمِ عليه، قائلاً «ضربتُ أحدَ أبنائي ضربًا مُبرِّحًا؛ لاعتقادي أنه أخطأَ بحقِّ والدتِه؛ لاكتشفَ بعدَ ذلكَ أنه مظلومٌ، وليس له علاقةٌ بالأمرِ؛ ونتيجةً لذلكَ وجدتُ أنه من الأفضلِ أنْ أعتذرَ منه؛ لارتكابي هذا التصرّفَ؛ لكنْ بيني وبينَ نفسي؛ لم أستطعْ القيامَ بالاعتذارِ؛ لأنه ليس بالأمرِ السهلِ”.
أمّا “شيماء أبو ندا” فتقولُ:” اعتذارُ الكبارِ من الصغارِ لغةٌ تُعبّرُ عن الرقيِّ والأدبِ، وتضيفُ: “حين نعتذرُ لصغارِنا إذا أخطأنا، فإننا بذلكَ نقومُ بإيصالِ رسالةٍ واضحةٍ للطفلِ؛ بأنّ الإنسانَ ليس كائنًا معصومًا من الخطأ، وهذا رمزٌ للقوةِ». مؤكّدةً أنّ الطفلَ عندما يشعرُ بأنه مظلومٌ؛ ويتمُّ الاعتذارُ له، فإن ثقتَه في نفسِه ستزدادُ ويصبحُ الوالدانِ نموذجًا إيجابيًا، يُحتذَى بهما، كما أنّ الاعتذارَ يعلّمُ الأطفالَ في المستقبلِ ثقافةَ الاحترامِ والتسامحِ والمحبةِ للآخَرينَ، وعدمِ الإصرارِ على الخطأِ؛ “وهو ثقافة”؛ لذلكَ لابدَّ من الحرصِ على ممارسةِ ذلك في حياتِنا اليوميةِ، والحرصِ على تعليمِ ذلكَ للأبناءِ بالممارسةِ الفعليةِ.
كبيرًا أو صغيرًا
أمّا “جمال أبو عرقوب” فيتَفِقُ مع مقولةِ “إنّ الاعتذارَ لا يعرفُ كبيرًا أو صغيرًا، كثيرٌ من أولياءِ الأمورِ يجدونَ اعتذارَهم للأبناءِ نوعًا من التقليلِ من الشأنِ، وضعفِ الشخصيةِ، وهم لا يدركونَ أنّ الوالدَينِ حينَ لا يعتذرانَ؛ فإنَّ ذلكَ يعلِّمُهم الدكتاتوريةَ، وأنّ الالتزامَ بالمبادئِ نوعٌ من تحكُّمِ الكبارِ في الصغارِ.
ويضيفُ: “كثيرًا ما أُخطئُ بحقِّ أبنائي، ولكنْ لا تمرُّ ساعاتٌ من الزمنِ؛ إلّا وأنا أقدّمُ اعتذاري لهم؛ إنْ شعرتُ أنني أخطأتُ بحقِّهم، فالاعتذارُ من وجهةِ نظري كثيرًا ما يختصرُ المسافاتِ، ويطيّبُ النفوسَ، ويقرِّبُها من الحقِّ، ويطوِّعُها للالتزامِ بالخيرِ، أمّا عدمُ الاعتذارِ فيولّدُ مزيدًا من المكابرةِ والعنادِ، وكُرهِ الأبناءِ لوالدِيهم؛ إنْ تكرَّرَ الخطأُ بحقِّهم، ولم يسمعوا كلمةَ آسِف”. لا يمانعُ “أبو عرقوب” من الاعتذارِ لأبنائه، ويقولُ: “عاقبتُ وَلدي الصغيرَ؛ واتّضحَ لي أنه بريء من فِعلِ ما حاسبتُه عليه، وعندَما عرفتُ؛ قبَّلتُه واعتذرتُ له، وكان لذلكَ بالغَ الأثرِ فيه، فبادلَني القُبَلَ والأحضانَ”.
وأكّدَ الخبراءُ أنّ الكثيرَ من الآباءِ يَعدُّونَ الاعتذارَ لأبنائهم سلوكًا يقلّلُ من هيبتِهم، موضِّحينَ أنّ اعتذارَ الأبِ يجعلُ الابنَ يحاكي سلوكَه؛ فيَعتذِرُ عندما يخطئُ، مُشيرينَ إلى أنّ اعتذارَ الأبوَينِ يجعلُ الأبناءَ يتمتعونَ بالمصداقيةِ، ويُجنِّبُهم الازدواجيةَ التي تُربِكُهم، وكشفوا أنّ تحاشيَ الاعتذارِ يمثّلُ بدايةً لجملةٍ من الاضطراباتِ السلوكيةِ التي تؤدّي في الكثيرِ من الأحيانِ إلى عدمِ احترامِ قواعدِ وقوانينِ المجتمعِ على المدَى البعيدِ.
وكشفَ المختصّونَ أنّ الاعتذارَ يخلقُ نوعًا من التواصلِ بينَ الآباءِ والأبناءِ، ويقلّلُ من فكرةِ صراعِ الأجيالِ، ويفتحُ الطريقَ أمامَ مناقشاتٍ جادّةٍ بينَ الابنِ والأبِ، فيتحوّلُ الاتصالُ بينَهما من اتصالٍ أُحاديِّ الجانبِ من الأبِ للابنِ؛ إلى خَلقِ حالةٍ من النقاشِ بينَ الطرَفينِ، كما أنه يقلّلُ من العنفِ لدَى الأطفالِ، ويعطي للابنِ الإحساسَ بأنه شخصٌ مسؤولٌ، وإنسانٌ كاملٌ.
ونبّهوا إلى أنّ البعضَ يرونَ أنّ الاعتذارَ يضعُ الوالدَينِ في موقعِ ضعفٍ، ويمسُّ من سلطتِهم ومصداقيتِهم تُجاهَ أبنائهم، لافتينَ إلى ضرورةِ أنْ يعتذرَ الآباءُ لأطفالِهم حين تقتضي الحاجةُ لذلك، فمِن شأنِ ذلكَ أنْ يعزِّزَ قيمةَ الاعتذارِ لدَيهم.

من جانبِها تقولُ دكتورةُ علمِ النفسِ التربوي، “رائدة أبو عبيد”:” إنّ الآباءَ عمومًا ليسوا أفرادًا مِثاليّينَ معصومينَ من الخطأ، مشيرًا إلى أنّ الآباءَ يمكنُ أنْ يُخطئوا في حقِّ أبنائهم، ويؤذوا مشاعرَهم دونَ قصدٍ، ويمكنُ أنْ يولّدَ هذا الأمرُ الشعورَ بالذنبِ لدَيهِم؛ لِذا ينبغي عليهم أنْ يكونوا خيرَ مِثالٍ لأبنائهم؛ حتى يتعلّمَ الأطفالُ تحمُّلَ مسؤوليةِ أفعالِهم.
لافتةً إلى أنّ اعتذارَ الآباءِ للأطفالِ _حينَ تقتضي الحاجةُ_ يُعدُّ مسألةً ذاتَ قيمةٍ كبيرةٍ؛ لأنهم يعلّمونَ أطفالَهم أنهم قادرونَ على تحمُّلِ مسؤوليةِ أفعالِهم، مشيرةً إلى أنه ينبغي شرحُ الأسبابِ التي تجعلُ الأبَ أو الأمَّ يتصرّفُ مع الطفلِ بطريقةٍ غيرِ مناسبةٍ، فاعتذارُ الأولياءِ يلعبُ دورًا أساسيًّا في تكوينِ شخصيةِ الأطفالِ؛ حيثُ يجعلُهم متواضعينَ؛ وهو ما ينعكسُ على سلوكِهم الشخصي.
الطفلُ فِكرةٌ
كما نبّهتْ إلى أنّ دورَ الوالدَينِ يكمُنُ في تعليمِ الأطفالِ وتأديبِهم وتوجيهِهم؛ الأمرُ الذي يجعلُ الكثيرَ منهم لا يحبّذونَ فكرةَ الاعتذارِ لأبنائهم، وقد يعتقدُ الأبُ أو الأمُّ أنَّ الاعترافَ بالذنبِ للطفلِ؛ يمكِنُ أنْ يُعَدَّ شكلاً من أشكالِ الضعفِ، ولكنْ على العكسِ، فإنّ مستوى الاحترامِ المتبادَلِ بينَ الطرَفينِ قد يزيدُ بمُجردِ أنْ يعترفَ أحدُهما بخطئه. كما أنّ الاعتذارَ للطفلِ يمكِنُ أنْ يعلِّمَه أنْ يتصرّفَ بالمِثلِ مع الآخَرينَ، ويصبحَ إنسانًا مسؤولًا.
وتوضّحُ أنه ينبغي على الوالدَينِ أنْ يرسِّخا لدَى الطفلِ فكرةَ أنّ الإنسانَ كائنٌ خطّاءٌ، ولا ينحصرُ الدَّورُ في تعليمِ الأطفالِ والتوجيهِ فقط، ومن الضروري أنْ يتعلّمَ الطفلُ أنّ الإنسانَ مسؤولٌ عن تصرّفاتِه؛ سواءٌ كانت جيدةً أَم سيئةً، مشيرةً إلى أنه ينبغي على الأبِ أوِ الأمِّ أنْ يُخبرَ ابنَه عن سببِ اعتذارِه، خاصةً عندَ استخدامِ ألفاظٍ غيرِ لائقةٍ أو كلامٍ سلبيٍّ، ومن خلالِ الاعترافِ بالأخطاءِ والاعتذارِ؛ يقدّمُ الوالدانِ للطفلِ مِثالاً نموذجيًّا للعلاقةِ بين الطرَفينِ.
وتتابعُ: قد يكونُ الاعتذارُ ضرورةً؛ وليس مُجردَ اختيارٍ، وقد لفتَ المختصّونَ إلى أنه “عندما نعتذرُ عما فعلْنا؛ فهذا لا يعني أننا أشخاصٌ سيّئونَ؛ ولكنّ الفعلَ هو السيئُ، فجميعُنا نرتكبُ أخطاءً، ويجبُ أنْ نعتذرَ عنها، ونتجنّبَ ارتكابَها مرّةً أخرى، وشدَّدوا على أنّ نقاشَ الآباءِ بعدَ تقديمِ الاعتذارِ؛ يساعدُ الأطفالَ في فَهمِ ما حدثَ، وتحديدِ مشاعرِهم.
في السياقِ ذاتِه، أكّدتْ دراساتٌ حديثةٌ أنّ الاعتذارَ يمكنُ أنْ يحسّنَ مشاعرَ الشخصِ المُنزعجِ، مشيرةً إلى أنّ الاعتذارَ التلقائي أدَّى إلى تحسينِ شعورِ الأطفالِ بعدَ الضيقِ، وكشفتْ أنّ عباراتِ الاعتذارِ وإجراءاتِ التصالحِ تُحدثُ فرقًا في مشاعرِ وسلوكياتِ الأطفالِ الصغارِ.
وتؤكّدُ “أبو عبيد” أنّ المجتمعاتِ العربيةَ تعدِمُ هذه الوسيلةَ في التربيةِ؛ نظرًا لطبيعةِ الثقافةِ، التي ترَبَّينا عليها، وقد يأخذُ الموضوعُ نوعًا من المُكابرةِ، في حين أنّ الاعتذارَ آليةً واقعيةً، تنشأُ نفسيًّا لدَى الإنسانِ السويِّ، وأنّ مَن يتجاهَلُهُ كمَن يضعُ غشاوةً على عينيهِ، أو يلجأُ أحيانًا لإسقاطِ خطئِه على الآخَرينَ لتفادي الاعتذارِ، ولو بكلمةٍ إن قالَها».
وتواصلُ: “البعضُ يَعدُّ أنه لا يجوزُ أنْ يعتذرَ الأبُ لابنِه، على الرغمِ من أنه قد يُرغَمُ على الاعتذارِ في مواقفَ أخرى لأُناسٍ لا يتوقعُ أنْ يتحدّثَ معهم، فضلاً عن أنْ يَعتذرَ لهم، إذْ نشأنا مُعتادينَ أنْ يعتذرَ الابنُ لأبيهِ؛ حتى وإنْ أخطأَ الأولُ في حقِّ الثاني، مُعتقدِينَ أنه بالاعتذارِ تتبدّلُ المواقفُ، وتهتز هيبةُ الأبِ، وفي المقابلِ، هناك من يرى أنّ مِن أصولِ التربيةِ أنْ يكونَ الأبُ نموذجًا صالحًا، وليس متسلّطًا؛ لكي لا ينعكسَ سلوكُه على ابنِه، عندما يكبرَ ويصبحَ مسؤولاً أو أبًا”.
وتوضّح أنّ للاعتذارِ أسلوبًا ووقتًا وكلماتٍ معيّنةً، وتُتابعُ: كثيرٌ من الآباءِ يعتذرونَ، وهم يتوقّعونَ أنّ الابنَ سيتقبّلُ الاعتذارَ بكلمةِ “آسف”؛ بعدَ أنْ تعرّضَ إلى سبٍّ أو ضربٍ، والبعضُ الآخَرُ يُغدِقُ بالهدايا والخروجِ كتعويضٍ، أو قد يُكثِرُ من الحديثِ حولَ خطئهِ وندَمِه فيُفسدُ الولدَ، لافتةً إلى أنّ للاعتذارِ أنواعًا؛ منها اللفظي، أو بالابتسامةِ، أو المصافحةِ، أو التربيتِ على الكتفِ، أو الخروجِ مع الابنِ في نزهةٍ، أو هديةٍ، أو قُبلةٍ على جبينِه”