مرآتي
(1)رُكام
في لحظة واحدة، زال الفاصل بين الموت الأصغر والأكبر، وغطّت آلاف الأرواح في سُبات لا قيام بعده، صورة من الفزع الأكبر، مادت فيها الأرض بما عليها، لكن الوحيدين الذين نجوا هم الذين غادروا، وتُرِكت قلوب الأحياء بعدهم ثكلى مشردة، كملايين الذين باتوا لا مأوى لهم..
“زلزال”، كلمة اعتدنا على سماعها، لكنها لم تكن يوماً بهذا الوقع الفاقع اللون والصوت والرائحة، كانت قريبة حتى ظننْنّا أنها تجاوزتنا خطأً لا قدراً، قريبة إلى درجة أنها أعادت كل مشاهد الركام القديمة التي سبّبتها زلازل البشر والسلاح، لكنها جاءت بأرقام نشطة كأنما تعيد مراجعة التاريخ..
دُفِنْنا مع كل مفقود، ثم انتُشِلنا مع كل ناجٍ، بكينا وجع الكارثة، وقهر الظلم، واعوجاج العالمين، وبكينا غفلتنا، واغترارنا، وضعفنا المُريع..
(2)حبيب
“هدية من شاب لحبيبته بمناسبة عيد ميلادها”، “هدية من صبية لحبيبها في الفالنتاين”.. أصبحت هذه العبارات تقفز في وجهي باستمرار، تتبختر بلا حياء على صفحات التواصل، كدليل للرقي، وعلامة على التقدم والانفتاح! تزين صفحات محلات الهدايا والتغليف مقاطعها الدعائية بتلك العبارات بفخر، دون أدنى إحساس بمسئولية أو تأنيب، ويتفاعل معها الجمهور بالإعجاب والسؤال والاستفسار، دون غضاضة أو استهجان، غريبة الحال التي وصلنا إليها من استمراء الخطأ والجهر به، وصولاً للتباهي بفعله! هل حقاً أصبح مفهوم “الحبيب” و “الـحبيبة” أمراً عادياً ومستساغاً، وعلنياً بتقديم الهدايا والاحتفال بالمناسبات؟
لا أحد ينكر المشاعر الإنسانية، أو النوايا الطيبة، لكن شكل العلاقات بين البشر قد تغير، وتغير للأسوأ، تغييراً ينذر بمآلات بئيسة..
قبل زمن، كان الذين يقعون في الحب يخفونه كسرّ ثمين، حتى يُتوّج بالاجتماع، أو ينتهي دون مشاع..
اليوم أصبحنا نعرف الشخص –من صفحته الشخصية- نشاركه مراحل علاقته كلها؛ فنعجب ونحب ونشتاق ونلتقي ونُهدي معه، بل ونشاركه وداعه وعذابه واكتئابه!
لم يعد تغير المشاعر الإنسانية ومعناها وقيمتها هو فقط المخيف، بل المخيف أكثر هو مدى تقبلنا لهذا التغير وتمكنّه منا، وعدم قدرتنا على مواجهته أو أحياناً إنكاره!
(4)مظاهر
دخلَتْ إلى مكتب مسئولة التسجيل في مدرسة تعليم قيادة السيارات، لمت عليها وتبادلت معها أطراف الحديث، وبدا من حديثهما أنهما لم تتقابلا منذ مدة، وأن الزائرة -التي اتضح أنها حصلت على رخصة قيادتها من هناك- مرّت لتُلقي التحية على معلميها وتطمئن عليهم.
الزائرة بدت بمظهر رثّ لدرجة أن لحظة دخولها استدعت استغراب الجميع، ورجّحت الظن بأنها سائلة دخلت لتجمع الصدقات! مع ما تثيره تلك الهيئة من مشاعر الشفقة والحزن، ومع بدئها بالحديث زاد مظهرها غرابة، لأنها لم تكن ما اعتقدناه..وأنا شغلت نفسي عن وجودها بتأمل سيارة أنيقة تصطف خارج الباب، وكانت مميزة بطرازها الفاخر، ولونها الأصفر الفاقع الذي يسرّ الناظرين..
أنهت حديثها وخرجت بخطوات واثقة، ثم اقتربت من السيارة الفاخرة، فإذا بها تضغط زرّ فك التأمين من مفتاح بيدها، وتصعد السيارة وتمضي!
بعد لحظات من الصدمة، أدركت أننا كبر لا نزال نقع مراراً وتكراراً، في فخ الحكم على الناس وفقاً للمظاهر