ساقَ الله على الزمنِ الجميلِ!
“ساقَ اللهُ على الزمنِ الجميلِ”، تَخرجُ من القلبِ مع ندمٍ أو حسرةٍ أو حزنِ؛ يقولُها القائلُ وهو متألّمٍ متأمِّلٍ ،مسترسلٍ في علاقاتٍ لسنواتٍ عديدةٍ ، يتمنّى لو الخيرَ كلَّه كان نصيبَ أصحابِ تلكَ العلاقاتِ، تحسبُ أنّ قواعدَها أحجارُ صوّانٍ؛ فتَجدَها فقاقيعَ صابونٍ تتلاشَى مع أولِ نسمةٍ من نافذةٍ تطلُّ على شتاءٍ لطيفٍ، وأنها علاقاتٌ موسميةٌ لمراحلَ مُعيّنةٍ من الحياةِ، لا لطولِ العمرِ.
وكأنّ قَدَرَ البشرِ أنْ يتحسَّروا على أزمنةٍ؛ عاشوا فيها، أو على أشخاصٍ ودَّعوها، بِهَجْرٍ، أو موتٍ، أو رحيلٍ، أو انفصالٍ روحيّ.
تفاصيلُ صغيرةٌ وكبيرةٌ، وعوالقُ مضتْ، تقضي الليالي الطويلةَ وأنتَ تعيشُ ذكرياتِها، وينطقُ بها لسانُكَ: “ساقَ الله على الزمنِ الجميل”!
وهناكَ مَن فسّرَ هذه المشاعرَ، وهذه التركيبةَ من الأيامِ بنظريةٍ أخرى، إنها نظريةُ “الانغماسِ والبُعدِ”، حيثُ إنّ الانغماسَ في الحاضرِ؛ يجعلُكَ تَحِنُّ للبعيدِ الذي تركتَه أو تركَكَ، حيثُ قال أصحابُ تلكَ النظريةِ أنّ كلَّ بعيدٍ محبوبٌ، تَجِدُ في نفسِكَ حنينًا له.
كما زادونا من الشعرِ بيتًا؛ لِيؤكِّدوا على صِدقِ نظريتِهم، أنّ الزمنَ والواقعَ الذي يشتكي منه أصحابُه الآنَ؛ هو الزمنُ غيرُ الجميلِ، الذي سيكونُ في القادمِ هو الزمنُ الجميلُ، وسيَبكونَ عليه عبرَ أشعارِهم وأحاديثَ سَمَرِهم.
وهناكَ مَن قالَ” إنّ البُعدَ عن الأشياءِ والأشخاصِ؛ يزيدُها جمالاً، فلو قرّبتْ إليها تبدأُ باكتشافِ عيوبِها، وقبلَهم قالتْ جدّاتُنا ” ابعِدْ تِحْلَ “.
كَلوحةٍ جميلةٍ تَفنَّنَ الرسامُ في رسمِ تفاصيلِها، طالَما تنظرُ إليها، وهي معلّقةٌ على الجدارِ؛ سيبقَى هذا الجمالُ في عينَيكَ، ولو نزعْتَها من مكانِها، وأمسَكْتَها بيدَيكَ؛ ستَقعُ عيناكَ حينَها على العيوبِ الكامنةِ فيها من رسمٍ أو لونٍ “.
في عامٍ من الأعوامِ، ولِظرفٍ ما أحيطَ فينا، انتقلْنا من بيتِنا إلي بيتٍ جديدٍ، وقدّرَ اللهُ لي في هذا العامِ أنْ أعودَ إلى الجامعةِ، بعدَ انقطاعٍ طويلٍ، كان حينَها بيتي قريبًا من الجامعةِ، من خمسةِ إلى (7) دقائقَ مَشيًا على الأقدامِ، في تلكَ الدقائقِ كنتُ أرى بيتًا جميلاً يحيطُ به جمالُ الطبيعةِ، لم يتركْ أصحابُه نوعًا من أنواعِ الورودِ، وشتلاتِ الزينةِ الطبيعيةِ؛ إلّا وضعوها في إصِّيصٍ، وزيَّنوا فيها شرفاتِ البيتِ المحيطةَ به، بشكلٍ أنيقٍ وملفتٍ للانتباهِ.
كلَّ يومٍ أنظرُ لهذا البيتِ في ذهابي وإيابي، وأدعو اللهَ لهم بالبرَكةِ، كنتُ حينَها أرسمُ في مخَّيلَتي أنّ أصحابَ هذا البيتِ سيكونونَ في قِمّةِ جمالِ الروحِ، ومَهدٍ واسعٍ للذَّوقِ الرفيعِ، فتَزيِّينُ البيتِ من الخارجِ؛ ما هو إلّا نتاجُ ذوقٍ عامٍّ لدَيهِم.
وفي ذاتِ يومٍ جمَعتْني “كافتيريا” الجامعةِ مع صَبيّةٍ شابّةٍ؛ تبادَلْتُ معها الحديثَ قليلاً؛ لأعرفَ منها أنها بنتُ جيرانِنا، وأنها ابنةُ هذا البيتِ الجميلِ الأنيقِ!
فبادرتُ بسؤالِها حينَها؛ مَن يعتني بهذا الكَمِّ من الورودِ؟ ومن أين له الوقتُ؟ لِيُخرِجَ هذا الغطاءَ الطبيعي لجدرانِ بيتِكم؟ فتفاجأتُ من ردِّها الغريبِ والسريعِ “ربنا يحرقه هالورد! ”
واسترسلتْ في حديثِها “هالورد بعملنا مشاكل، بابا بحبه، وبيعتني فيه كتير، وماخد كل وقته بعد الشغل، وبدّو إيانا نعتني فيه لما يكون مشغول، ووبسببه بتصير مشاكل كتيرة مع ماما، لو لقاها مش معتنية فيه، أو لو واحد من اخواتي كسر عِرق، أو قطف وردة! ”
سكتُّ برهةً، وقلتُ لها “معلّش.. بس بيتكم كتير حلو، ربنا يباركلكم”،
وانتهى الحديث، كنتُ أحسَبُ أنهم يزرعونها برومانسية، ويسقونها بماء الحب، لأجدَ أنّ هذا الجمالَ كان سببًا في حزنِ أربابِ البيتِ.
أفقَدَني حديثُ الصبيّةِ هذا الشغفَ، وهذا الانبهارَ بجمالِ بيتِهم، وما عُدتُ أنظرُ إليهِ كالسابقِ.
وصدَقَ مَن قال: “كُنْ جميلاً ترَى الكونَ جميلاً”، فجمالُنا هو من يُعزِّزُ جمالَ أزمِنَتِنا.