تغافَلوا .. فالتغافلُ ذكاءٌ وراحةٌ وفِطنةٌ!
تعالوا معي واقرأوا هذه القصةَ؛ حتى لا تَندموا في بعضِ الأحيانِ على بعضِ التصرّفاتِ، التي تَخرج مِنّا قصدًا أو عفويًا، حيثُ يقولُ أحدُ المدراءِ؛ عندَما ترَقّى إلى منصبِ مُديرٍ: كان من ضِمنِ الموَظفينَ عندي شابٌ نشيطٌ جدًّا، وناجحٌ في عملِه إلى حدٍّ بعيدٍ، وكان يقومُ بكلِّ ما يُطلَبُ منه بذكاءٍ وسرعةٍ ودِقةٍ متناهيةٍ، كما أنه يُحقِّقُ نسبةَ إنجازٍ عاليةً، ومتفوّقٌ على نُظرائه؛ لكنه في الوقتِ ذاتِه كان لعوبًا إلى حدٍّ ما، فقد كان يغادرُ مقرَّ عملهِ كثيرًا بدونِ إذنٍ، حتى أنّ إجازاتِه وأُذناته كانت أكثرَ من المُعتادِ!
ذاتَ مرّة تقدّم هذا الشاب بإجازة لكي يسافرَ مع أصدقائهِ في رحلةٍ ترويحيةٍ؛ لكنني رفضتُ إجازتَه، فما كان منه إلّا أنْ تقدَّم بإجازةٍ مَرضيةٍ، واتصلَ مُدَّعيًا المرضَ، ومعتذرًا عن الحضورِ، ولأنني أعرفُ أنه ليس مريضًا؛ ذهبتُ صباحًا إلى بيتِه؛ وانتظرتُه باكرًا ثُم قابلتُه وهو يحملُ عدّةَ الرَّحلاتِ، فكادَ الموظّفُ يَذوبُ خجلاً، ووَجهُهُ يتقلّبُ بينَ الخجلِ والحَرجِ!
للأسفِ؛ لقد بيّنتُ له أنه لم يكنْ قادرًا على خِداعي، وأنني لستُ بتلكَ السّذاجةِ التي يظنُّها، وبرهَنْتُ له أنه كاذبٌ، وخَصمتُ عنه أجرَ اليومِ مضاعَفًا، لكنْ ماذا حصلَ بعدَ ذلك؟
بعدَ أيامٍ؛ تقدَّمَ الشابُّ باستقالتِه، ومن جِهتي فقد خسرتُ جُهدَه ونِسبةَ الإنجازِ العاليةَ التي كان يُحقِّقُها، ولم يَعُدْ بالإمكانِ أنْ أرفعَ لإدارتي العليا نِسبَ الإنجازِ السابقةَ، وصرتُ بحاجةٍ للبحثِ عن شابٍّ يُمكِنُه أنْ يُحقِّقَ ذاتَ الإنجازِ، وهم قليلٌ.
لقد كان غباءً مُنقطِعَ النظيرِ، فما الذي استفدْتُه من ذلكَ الموقفِ غيرِ المحسوبِ؟
يومَها؛ اكتشفتُ أنَّ بعضَ ما نخسرُه في حياتِنا، يكونُ بسببِ التضييقِ على الآخَرينَ، وإغلاقِ منافذِ الهروبِ أمامَهم؛ ما يجعلُ الطرَفَ الآخَرَ أمامَ خيارَينِ اثنينِ لا ثالثَ لهما: إمّا أنْ يهربَ مِنك، وتَخسرَ جُهدَه، أو يتّخذك عدواً فيكيدُ لك، ويدعو عليك، وسيتراجع نشاطه كنوع من الدفاع عن النفس، وفي كلتا الحالتين ستكونُ أنت الخاسرَ.
يقولُ ذلك المديرُ: لذلكَ؛ فإنه ينبغي علينا أنْ نختارَ اللحظةَ المناسبةَ تمامًا؛ لكي نسمحَ للطرَفِ الآخَرِ أنْ يتراجَع، أو أنْ يَهربَ بِكرامةٍ، فبعضُ التغافلِ مفيدٌ جدًّا.
لن تكونَ منتصرًا فعليًّا فيما لو كشفتَ المرءَ أمامكَ وأمامَ نفسِه إلى حدَّ الإحراجِ، حيثُ لن يجدَ بُدًّا من المواجهةِ أو الهروبِ، وبالتالي فإنّ التجمُّلَ والتّغافُلَ هو ورقةٌ مُهمّةٌ لكَ لا عليكَ.
إنّ الأفضلَ دائمًا أنْ تفتحَ لِخصمكَ طريقًا يَخرجُ منه كريمًا، فيَحترمُك، بدَلَ أن تُحرِجَه فيُعادِيك، ولا يُشترَطُ أنْ تفوزَ بكلِّ المعاركِ، فبعضُ الفوزِ هزيمةٌ، وكذلكَ لا تَحرقْ مراكبَكَ أبدًا؛ فقد تحتاجُها قريبًا.
هذه القصّة نقلتُها للفائدةِ، وهي ليستْ للمدراءِ فقط، بل إنها رسالةٌ إلى الآباءِ والأمهاتِ، إلى الأزواجِ والزوجاتِ، إلى الأخوةِ والأخواتِ، إلى الأصدقاءِ والصديقاتِ، إلى الموظفينَ والموظفاتِ، إلى المدراءِ والمديراتِ، إلى المعلمينَ والمعلماتِ، وإلى كلِّ إنسانٍ يَحملُ في جَوفِه قلبًا يحبُّ الحياةَ، ويعشقَ السعادةَ، ويتمنَّى الهدوءَ والصفاءَ والسَّكينةَ.