هذه غزةُ التي لا نَحِبُّ
لقد غادرتْني الحروفُ، لم تَعُدْ أفكاري تستنجدُ وتضغطُ على عقلي كي يتركَ كلَّ شيئٍ يفعلُه، ويذهبَ للكتابةِ، لم أعُدْ أطرَبُ لصوتِ أزرارِ لوحةِ المفاتيحِ؛ كما كنتُ أطرَبُ قبلَ شهورٍ قليلةٍ، تُصيبُني نشوَةُ الرضا، أنّ أفكاري، وكلماتي، وجُملي، وحديثُ عقلي؛ يسطّرُ أمامَ عينَي؛ فيوافقني فيه مئاتٌ ممّن يتابعونَ نصوصي عبرَ “السوشيال ميديا”.
بلادةُ الحروفِ التي أعاني منها؛ ليست حالةً عاديةً مُطلَقًا، هذه الحالةُ أصابتْني بعدَ شعوري أنني لستُ من هذا الكوكبِ، وقد كتبتُ مرّةً تغريدةً تقولُ: “أشعرُ أنني من المريخِ، وفى الصباحِ أنزلُ إلى حضيضِ الأرضِ؛ لِما أراهُ وأسمعُه من نوائبِ المجتمعِ”، كيف لا وأنا ابنةُ غزةَ التي أخرجتْ الحياةَ من وسطِ الموتِ، وصنعتْ على مدارِ تاريخِها صنائعَ يَعجبُ لها أهلُ الأرضِ.
شعوري بالغربةِ في غزةَ أنّ هذه المدينةَ بدأتْ تنسجُ شخوصًا جديدةً لم تكنْ تشكلُ في خلفياتِ غزةَ الثقافيةِ، أو الاجتماعيةِ، أو العابرةِ أيَّ ثِقَلٍ أو قيمةٍ، بدأتٍ المدينةُ تَنبذُ الجمالَ والنقاءَ وأهلَ العلمِ وأهلَ الدِّينِ؛ وتَرفعُ من قيمةِ قليلي الإدراكِ والعِفّةِ والفهمِ والدِّينِ، باتت هذا المدينةُ تصمتُ أمامَ سلوكياتِ أبنائها التي لا تَنُمُّ عن تربيةِ أو خُلقٍ، باتت هذه المدينةُ ترفعُ من عبيدِها من ذَوي الأخلاقِ السيئةِ، وراقصي “التيتكوك”، ومن يُسمّونَهم “مشاهير”.
غزةُ التي نحبُّ تغيّرتْ، وتبدَلتْ، وباتت مدينةً لا نَعرِفُها، نسيرُ في شوارعِها ونصمتُ عن كلِّ عيوبِها، وندركُ في قرارِ أنفُسِنا أنّ المجتمعَ (قلَّ حياؤه)، حتى إننا لم نَعُدْ نستطيعُ أنْ نسيرَ في سُنةِ نبيِّ اللهِ محمد _عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ_ في الأرضِ، وأنْ نَنهَى عن المنكرِ كأقلِّ الإيمانِ، لأنّ الغالبيةَ العُظمَى باتت تعتقدُ أنّ كلَّ شيءٍ في سلوكِ البشرِ بات حريةً شخصيةً.
قبلَ فترةٍ بسيطةٍ انتقدتُ عبرَ “فيسبوك” ارتداءَ بعضِ الفتياتِ جلبابًا على حجابِ “شالةٍ” موضوعةٍ بطريقةٍ كاشفةٍ للرقبةِ وبعضِ الشعرِ، وأحيانًا للأذنَينِ، وتفاجأتُ بقيمةِ التعليقاتِ التي تنتقدُني أنا، لأنني أمسُّ بحريتِهم الشخصيةِ كأفرادٍ، حيثُ أنّ الملابسَ باتت شكلًا من أشكالِ الحريةِ، وتَناسَى هؤلاءِ أنَّ تعاليمَ اللهِ وفروضَه وحدودَه لا تخضعُ لأيةِ حريةٍ شخصيةٍ، أو أنّ النصحَ والإرشادَ فيها جزءٌ من سُنّةِ رسولِنا الكريمِ في الأرضِ.
ليس هذا وحسْبُ، بالأمسِ استقبلتْ غزة #دعدوش شخصيًّا لا أعرفُ هذا الشخصَ، وما هو دَورُه الحقيقُ في مجتمعِه! وما مدَى فائدةِ الزيارةِ لغزةَ، لكني على ثقةٍ تامّةٍ أنّ الاستقبالَ الحافلَ الذي نالَه فورَ دخولِ غزةَ، و مدَى الاحتفاءِ فيه عبرَ “السوشيال ميديا” شيئٌ قمة في المبالغةِ وقمّةٌ بالاستهتارِ بمكانةِ غزةَ وأهلِها، ولو عقدْنا مقارنةً بسيطةً بينَ صدَى استقبالِه بغزةَ، وصدى استقبالِ الأسيرِ “كريم يونس” الذي قضَّى (40) عامًا ينسجُ حريتَه، ويصنعُ صمودَه، ويُشعلُ قضيتَنا في كلِّ المحافلِ السياسيةِ، لإدراكِنا أننا في مجتمعٍ ناقصٍ.
لـ#دعدوش حُجزتْ غرفُ الفنادقِ، وصرفتْ حفلاتُ الاستقبالِ، وبات حضورُه في أيِّ مكانٍ بغزةَ يشكّلُ تظاهرةً فنيةً وثقافيةً ، رغمَ أنّ الفيديوهاتِ المتداوَلةَ لا تَنُمُّ إلّا أننا أمامَ مجموعةٍ من العاهاتِ الفكريةِ والعقليةِ التي أعطتْها السوشيال ميديا مساحةً لممارسةِ “ارهاصاتِهم” الفكريةِ والعقليةِ بصورةٍ مُبتذلةٍ تُخجِلُ أيَّ غزاوي يحملُ (10%) من العقلِ والفكرِ والسلوكِ السليمِ.
الغريبُ أنّ رجالَ الأعمالِ، وأصحابَ المطاعمَ، والتجارَ، وأصحابَ رؤوسِ المالِ، يَجدونَ من نموذجِ #دعدوش شخصًا مؤهلًا للترويجِ لأفكارِهم وتجارتِهم ومالِهم، فلا غرابةَ أنْ تقومَ شركةٌ محترمةٌ بإرسالِ #هبوش إلى “قطر” كمُنتَدبةٍ عنها في كأسِ العالمِ، ولا غرابةَ أنْ تكونَ واجهةُ المشاهيرِ بغزةَ تضمُ مَعتوهي المدينةِ ، ولا غرابةَ أنْ يكدحَ المثقفونَ وأصحابَ الشهاداتِ في حياتِهم اليوميةِ؛ مقابلَ عقودِ وظائفَ لا تتعدَّى (300)$ ، في حين تنشرُ إحدى السوشلجياتِ المشهورةِ بغزةَ خمسةَ إعلاناتٍ في” الستورى” الخاصِّ بها، عبرَ “انستجرام” مقابلَ (500)دولارٍ ، هذه غزةُ الآنَ !!