تحتَ المِجهرِ
لِكُلٍّ مِنّا حياتُه الخاصةُ، نعيشُها بسَترِ اللهِ وكَرمِه، نرضَى بما قَسمَهُ اللهُ، نحاولُ أنْ نعيشَ الحياةَ ونواصِلَ المسيرَ، ونتَغلَّبَ على الصعابِ والظروفِ، نجاهدُ كثيرًا لنبدوَ بالمظهرِ القوي، والابتسامةُ لا تفارقُ وجوهَنا ..نحاربُ في معاركَ قائمةٍ داخلَ عقولِنا، لا تَتوقّفُ، نُصارعُها ليلَ نهارَ .. ونهزِمُها بالرضا والتفاؤلِ.. إنَّ القادمَ أجملُ ..
في وسطِ صراعاتِ الحياةِ وانشغالِنا؛ نتفاجأُ بأنَّ حياتَنا تحتِ مجهرِ الآخَرينَ؛ يَتِمُّ فيه التكبيرُ والتصغيرُ على أدَقِّ التفاصيلِ، ثُم يَلوكُها الآخَرونَ ونحنُ آخِرُ مَن يَعلمُ، وتبدأُ التحليلاتُ والتعليقاتُ تُحاكُ وتُقالُ وتُنسَجُ وتُعَمَّمُ على أنها واقعٌ .
للأسفِ، نحنُ نعيشُ في عصرِ التطَفلِ والتدخُلِ في حياةِ الآخَرينَ، نُعطي لأنفُسِنا الحقَّ في التدَخُلِ في حياةِ الآخَرينَ، ونُفسِّرُها بالطريقةِ التي تتناسبُ مع أهوائنا وتحليلاتِنا ..
لِكُلِّ شخصٍ مساحةٌ خاصّةٌ؛ وهي تلكَ الدائرةُ التي نشعرُ بالانزعاجِ عندَما يقتربُ أحدٌ منها، أو يسألُنا أحدٌ عنها، فلماذا لا نُحاولُ فَهمَ المساحةِ الخاصةِ لمَن نعيشُ معهم، أو نعملُ معهم؟؟ لا نقتربُ إلّا إذا طلبوا مِنا المساعدةَ والتدخُلَ .. لا تَقتحِمْ خصوصياتِ الآخَرينَ دونَ إذنٍ.. لا تُبدِ رأيَّكَ إذا لم يُطلَبْ منكَ ..
للأسفِ، المساحةُ الخاصةُ مفهومٌ شِبهَ غائبٍ عن واقعِنا، فلِكُلِّ واحدٍ منّا مساحتُه الخاصّةُ التي يحتاجُ أنْ يكونَ فيها؛ دونَ تدَخُلِ أحدٍ مِنا، لدَينا قلقٌ زائدٌ عن اللزومِ، على بعضِنا البعضِ، حتى أننا نهتمُّ بأدَقِّ تفاصيلِ حياةِ غيرِنا؛ بدافِعِ الحبِّ -كما نَزعُمُ-، بينَما الدافعُ -في الغالبِ- من بابِ الفضولِ .
منذُ صِغَرِنا والمحيطونَ بنا يناقشونَ كلَّ تفاصيلِ حياتِنا، وكأنّها إشارةٌ ضِمنيّةٌ أنَّ حياتَكَ واختياراتَك هي مسؤوليةُ الجميعِ! فيبدأُ المشوارُ من اختيارِ الروضةِ والمدرسةِ، هل هي حكوميةٌ أَم خاصَّةٌ! ثُم نسمعُ ملاحظاتٍ بشكلٍ دائمٍ على كلِّ ما نَلبَسُ.. ، نسمعُهم وهم يناقشونَ قرارَ شراءِ سيارةٍ من عدَمِه، أو قرارَ الموافقةِ على عرضٍ للعملٍ أو رفضِه، حتى قرارِ المرأةِ باختيارِ لونِ شعرِها يتحوّلُ إلى قضيةٍ مُهِمةٍ لكُلِّ المحيطاتِ بها.
يستطيعُ كلُّ واحدٍ فينا أنْ يقرّرَ بينَه وبينَ نفسِه، أنْ يُدرّبَ نفسَهُ على عدمِ التدخلِ في شؤونِ الآخَرينَ، وأنْ يُقلِّلَ من حالةِ القلقِ التي تصيبُه على الآخَرينَ، لأدْنَى المستوياتِ، ذلكَ القلقُ الذي يتحوّلُ إلى حِرصٍ زائدٍ على مستقبلِ الآخَرينَ، ويدفعُنا للتدخُلِ في شؤونِهم. في دينِنا الإسلاميِّ وَردَ عن رسولِ اللهِ _صلى الله عليه وسلم_ (وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ)، وكأنّها إشارةٌ أنَّ طلبَ النصيحةِ يأتي من الطرَفِ الآخَرِ؛ لا أنْ نُبادرَ نحنُ بتقديمِها، دونَ أنْ يُطلَبَ منّا ذلكَ.
نحنُ بحاجةٍ أنْ نوَسِّعَ فَهمَنا وإدراكَنا لدائرةِ الخصوصيةِ، والمساحةِ الخاصةِ لكُلِّ واحدٍ فينا، فإنْ تعوَّدْنا على استيعابِ أنها حياةُ غيرِكَ لا حياتَك، وأنْ تقِفَ عندَ حدودِكَ؛ ولا تتَخطَّى حدودَ غيرِكَ، فكِّرْ في نفسِكَ وحياتِكَ؛ ستَجِدُ نفسَكَ أنجزتَ، وحقَّقتَ ما تتمنَّى، ودَعْ الآخَرينَ وشأنَهم .