
على الطريقِ بغزةَ، يُمكِنُكَ تناولُ الكثيرِ من المأكولاتِ التي تختلفُ أسعارُها، وجَودتُها، وأصنافُها، وطريقةُ أكلِها، في الصباحِ يُمكِنُكَ تناولُ “سندويش فلافل” كإفطارٍ غزاويّ، أمّا وقت الغداءُ فلا غرابةَ أنْ تتناولَ كاسَ مَنسفٍ باللحمِ الطازَجِ على الطريقةِ الأردنيةِ.
هكذا غزة في السنواتِ الخَمسِ الأخيرةِ، باتتْ مكانًا لكُلِّ غريبٍ وعجيبٍ، وباتت المطاعمُ تحتلُّ جزءًا كبيرًا من تفكيرِ ونَمطِ الحياةِ في قطاعِ غزةَ بفِعلِ الحصارِ وتكلفةِ السفرِ العاليةِ؛ مقارَنةً بكُلِّ دولِ العالمِ، وغيابِ ثقافةِ السياحةِ التي يعيشُها الأفرادُ على مستوى العالمِ.
رَواجٌ واهتمامٌ
لِذا تَلقَى تجارِبُ المطاعمِ وأفكارُها الجديدةُ رواجًا هائلاً، واهتمامًا واسعًا في الشارعِ الغزيّ؛ لِذا لا غرابةَ إنْ شاهدتَ المئاتِ يجلسونَ أمامَ محلٍّ صغيرٍ؛ يتناولونَ فيه المَنسفَ الأردنيَّ في كاسٍ ورقيةٍ، ثُم يغادرونَ، وقد يبدو الأمرُ غيرَ مَنطقيّ بالمُطلَقِ؛ لكنّ الشابَّ “عمر أبو الخير” فَعلَها ونفَّذَها في غزةَ الصغيرةِ المُغلَقةِ.
ويقولُ “أبو الخير” لـ “السعادة”:” إنّ الكثيرَ من المطاعمِ في غزةَ؛ تُقدّمُ المنسفَ ضِمنَ قائمةِ المأكولاتِ الشرقيةِ؛ لكنّ تَكلفتَها تكونُ مرتفعةً، وكثيرًا ما تكونُ أعلَى من مَقدرةِ المواطنِ؛ لِذا جاءتْ فكرةُ كاسِ المنسفِ حلًّا لكثيرٍ من مُحِبِّي المنسفِ، الذينَ يُمكِنُ أنْ يَجدوا فيها تلبيةً لرغباتِهم في تناولِ هذه الأكلةِ بسعرٍ مناسبٍ”.
ويضيفُ، وهو يواصلُ عملَه في تجهيزِ كؤوسِ المنسفِ لِمُرتادي المطعمِ:” شاهدتُ الفكرةَ أثناءَ زيارتي الأردنَّ، وكذلكَ في الضفةِ الغربيةِ، ورأيتُ أنها فكرةٌ جديدةٌ يُمكِنُ أنْ تلقَى قبولًا، وتَتناسبَ مع أذواقِ المواطنينَ في غزةَ، لاسيَّما الموظفونَ، أو طلابُ الجامعاتِ ممّن يريدونُ تناولَ طعامٍ سريعٍ بطابعٍ مختلفٍ”.
يقومُ “أبو الخير” بتجهيزِ المنسفِ بكافةِ مكوِّناتِه، ثُم يبدأُ في تحضيرِ أكوابِ الكرتونِ؛ لتلبيةِ رغباتِ وطلباتِ المواطنينَ، وذلكَ بوَضعِ خُبزِ الصاجِ في الكأسِ قبلَ بَلِّهِ بالمَرقِ، ومن ثَمَّ إضافةِ الرزِّ وطبقةٍ أخرى من خُبزِ الصاجِ، وفي النهاية توضَعُ قِطَعُ اللحمِ المطبوخةُ بالجَميدِ؛ وتُزيَّنُ بالمُكسّراتِ المُحمَّصةِ؛ لِيصبحَ الكوبُ جاهزًا
يرفضُ “أبو الخير” تقديمَ منسفِه في المطعمِ كَوجبةٍ أساسيةٍ عبرَ الأطباقِ، وكما هو مُتعارَفٌ عليه لوَجبةٍ دسمةٍ كهذهِ ، منوِّها أنّ فكرتَه بالأساسِ تقومُ على تقديمِ وجبةِ منسفٍ سريعةٍ في كوبِ من الكرتونِ، لاسيَّما وأنّ مساحةَ المطعمِ لدَيهِ لا تسمحُ باستقبالِ أعدادٍ كبيرةٍ من الأشخاصِ، كما أنّ فكرةَ كوبِ المنسفِ تتناسبُ مع الأشخاصِ الذين يتناولونَ طعامَهم في العملِ أو بشكلٍ سريعٍ، والعودةِ لأشغالِهم المختلفةِ، لافتًا أنَّ العديدَ من الزبائنِ يشترونَ كوبَ المنسفِ لِتَناوُلِه بشكلٍ مستعجلٍ داخلَ مركباتِهم الخاصةِ، أو في الشارعِ العامِّ، وهذه الفكرةُ سهّلتْ على الأشخاصَ تناوُلَ وجباتِهم المُفضَّلةِ بشكلٍ سريعٍ، وفي أيِّ مكانٍ”.
جذّابةٌ بِبساطتِها
ويرى “أبو الخير” أنَّ طبقَ المنسفِ من الأطباقِ المُكلفةِ جدًّا؛ بسببِ ارتفاعِ سعرِ الجميدِ في قطاعِ غزةَ، بالإضافةِ لِثمنِ اللحمِ الطازجِ؛ ما يجعلُ تكلفةَ الطبقِ الكبيرِ تتجاوزُ (150) شيكلًا، بينَما تَكلفةُ الكوبِ الواحدِ الذي يكفي لشخصٍ واحدٍ تتراوحُ بينَ عشرةِ و(15) شيكلًا.
يطمحُ “أبو الخير” لِتَوسِعةِ مشروعِه الخاصِّ بِبيعِ أكوابِ المنسفِ، وأنْ يفتتِحَ فروعًا أُخرى في مختلفِ محافظاتِ قطاعِ غزةَ، لاسيَّما وإنّ فكرتَه لاقتْ إعجابًا كبيرًا .
بعيدًا عن الموائدِ والولائمِ الكبيرةِ، التي يتصدَّرُها المنسفُ في الأفراحِ والأتراحِ، فإنّ الفكرةَ جذّابةٌ بسببِ بساطتِها، ولأنها جديدةٌ وخارجةٌ عن المألوفِ، وسرعانَ ما لاقتْ رَواجًا غيرَ عادٍّ بينَ سكانِ مدينةِ غزةَ، الذين يميلونَ بأكلِهم إلى المأكولاتِ الدسمةِ والقديمةِ المُرتبطةِ بفلسطينَ والعروبةِ.
والجديرُ بالذِّكرِ أنَّ المنسفَ الأردنيَّ أُدرِجَ على قائمةِ “اليونسكو” للتراثِ الثقافي غيرِ المادِّي، ويُقصَدُ بعبارةِ “التراثُ الثقافيُّ غيرُ المادّي”: المُمارساتُ والتقاليدُ والمعارفُ والمهاراتُ، وما يرتبطُ بها من آلاتٍ، وقِطَعٍ، ومصنوعاتٍ، وأماكنَ ثقافيةٍ، التي تَعُدُّها الجماعاتُ والمجموعاتُ، وأحيانًا الأفرادُ، جزءًا من تُراثِهم الثقافيّ.
والمنسفُ؛ مأدُبةٌ تَحملُ معانيَ اجتماعيةً وثقافيةً، حيثُ لا يمكِنُ زيارةُ الأردُنِّ بدونِ تذوُّقِ المنسفِ، الذي تشتهرُ به المملكةُ، ويرتبطُ بنَمطِ الحياةِ الزراعيةِ الرعويةِ التي تتوفّرُ فيها اللحومُ ومُنتجاتُ الألبانِ.
وتُسلَقُ قِطعٌ كبيرةٌ من لحمِ الضأنِ أوِ الماعزِ، مع التوابلِ في صلصةِ اللبنِ؛ وتُقدَّمُ مع الأرزِ أو البُرغلِ أحيانًا، فوقَ طبقةٍ من الخبزِ الرقيقِ؛ هذا هو المنسفُ الأردنيُّ الذي صعدَ إلى قائمةِ اليونسكو للتراثِ الثقافيّ غيرِ المادّي.
لكنَّ الشكلَ المُغري للطبقِ، وطعمَه الشهيَّ؛ ليسا العاملَينِ الوحيدَينِ اللذَينِ أدَّيا إلى إدراجِ المنسفِ على قائمةِ اليونسكو، إذ يُعَدّ التجهيزُ بحدِّ ذاتِه حدَثًا اجتماعيًا، حيثُ يناقشُ الطبّاخونَ الاهتماماتِ المشترَكةَ، ويَسرُدونَ القصصَ، ويقومونَ بالغناءِ؛ بينما يُعِدُّونَ طبقَ المَنسفِ.