
لا شيءَ يزولُ في القدسِ؛ فهي ثابتةُ التفاصيلِ والحضورِ؛ فعلى الرغمِ من زوالِ الكثيرِ من المِهَنِ القديمةِ في كلِّ بلادِ العالمِ؛ يسعَى أهالي البلدةِ العتيقةِ إلى الاحتفاظِ بكلِّ تفاصيلِ البلدةِ التي تُدلِّلُ على حضارتِها وطقوسِها وعروبتِها؛ حتى وإنْ كان على حسابِ جهدِهم وقوّتِهم ومالِهم، فحضورُ القدسِ بعروبتِها هو الأعظمُ والأغلَى.
في عقبةِ الشيخِ “ريحان” في القدسِ المحتلةِ؛ تقعُ معصرةُ “الجبريني”؛ هي واحدةٌ من معاصرِ السمسمِ والطحينيةِ التي تعملُ بالطريقةِ التقليديةِ؛ فمِن أصلِ (٢٧) معصرةً في القدسِ؛ بقيتْ معصرتانِ وهما: معصرةُ “الجبريني”، ومعصرةُ “الصالحي”، ويعودُ تاريخُ معصرةِ “الجبرينى” إلى أكثرَ من (٢٥٥) عامًا، تحافظُ حتى اليومِ على مكانتِها، وإرثِها، وآليّةِ عملِها القديمةِ، كانت تمتلكُها ثلاثُ عائلاتٍ مختلفةٍ قبلَ احتلالِ المدينةِ عامَ (١٩٦٧)؛ ثُم أصبحتْ مُلكًا لعائلةِ “الجبريني” منذُ ذلكَ اليوم ِ؛حتى بلغَ مالكُها من العمرِ (١٠٨) سنواتٍ! فلم يَعُدْ يقوَى على العملِ فيها؛ فعلَّمَ أبناءَه الستةَ سِرَّ المهنةِ؛ فتَوارثَها الأبناءُ أبًا عن جدٍّ.
حجرٌ دوّارٌ كبيرٌ؛ هو أولُ المستقبلينَ لزائرِ المعصرةِ، يحوي فتحةً دائريةً في مُنتصَفِه، يضعُ “الجبريني” السمسمَ فيها، ليقومَ الحجرُ بطَحنِه؛ فتَخرُجَ الطحينةُ صاحبةُ الطعمِ المَقدسيّ الفريدِ.
كَنزٌ حقيقٌ
وتورِّثُ عائلةُ الحاج “إبراهيم الجبريني” أبناءَها المهنةَ منذُ طفولتِهم، وترفضُ استخدامَ الطرُقِ الحديثةِ في تصنيعِها، فهي تحافظُ على إرثٍ يعودُ عمرُه لأكثرَ من (255) عامًا، يقولُ إسحاق الجبريني (55 عامًا) أبو الرائد :” إنّ المعصرةَ كَنزٌ حقيقٌ لا يمكنُ التفريطُ به، فهي تقعُ في قلبِ البلدةِ القديمةِ من القدسِ، عدا عن أنّ منتجاتِها فيها شفاءٌ للكثيرِ من الأمراضِ؛ لذلكَ تعلّمتُ وإخوتي الستةُ من والدي سرَّ المِهنةِ؛ لكنّ أشقائي الآخَرينَ اختاروا أنْ يعملوا في مِهنٍ أخرى، فيما أكملتُ وشقيقي الأصغرُ مسيرةَ الوالدِ؛ حفاظًا على الموروثِ العربيّ الفلسطينيّ من الزوالِ والسرقةِ.
ويضيفُ “الجبريني”: “أحمِلُ السمسمَ (32 )مرّةً؛ ليَمُرَّ بمراحلَ مختلفةٍ، وأنقلُه مرّاتٍ عديدةً بينَ الأحواضِ والفُرنِ؛ لنَقعِه وتنشيفِه، وفصلِ القشرةِ عنه؛ ثُم تَحميصِه، وطحنِه ؛حيثُ تعملُ المعصرةُ خمسةَ أيامٍ أسبوعيًّا، وتُنتجُ الطحينةَ الحمراءَ والبيضاءَ، وسمسمَ الكعكِ المقدسيّ، والحلاوةَ، وحبّةَ البرَكةِ، وزيتَ السمسمِ.
ويشيرُ “الجبريني” إلى أنّ طريقةَ الإنتاجِ القديمةَ؛ جعلتْ المعصرةَ وِجهةً للمُهتمّينَ بالحصولِ على منتجاتٍ طبيعيةٍ خاليةٍ من الأصباغِ والموادِ الحافظةِ، من المحافظاتِ الفلسطينيةِ كافةً، منوِّها أنّ لدَيهِم محلًّا صغيرًا يبيعُ فيه كلَّ ما يصنعُه، وهو بقالةٌ صغيرةٌ أمامَ المعصرةِ، فنحن لا نقومُ بتوزيعِ منتجاتِنا على الأسواقِ”.
ويلفتُ “الجبرينى” إلى أنّ المعصرةَ تُنتجُ أسبوعيًّا طنًّا واحدًا من المنتَجاتِ كافةً؛ وذلكَ لطولِ الوقتِ الذي تستغرِقُه الأفرانُ والأحجارُ العربيةُ في عمليةِ التصنيعِ؛ لكنّ الفرقَ يبدو واضحًا في مذاقِ منتجاتِنا؛ ولا يمكنُ مقارنةُ الطحينةِ المصنّعةِ بالماكيناتِ الحديثةِ بتلكَ المصنوعةِ بالطريقةِ العربيةِ البدائيةِ”.
وتُعَدُّ حبّةُ البرَكةِ التي تُنتِجُها المعصرةُ بشكلٍ شِبهِ يوميٍّ أحدَ أكثرِ المنتَجاتِ التي تلقَى إقبالاً من المواطنينَ؛ لِما تَحمِلُه من فوائدَ عِدّة، أبرزُها تخفيفُ الآلامِ، والمساعدةُ في التئامِ الجروحِ، ومقاومةِ السرطان ؛وفقًا لبعضِ الدراساتِ العلميةِ التي أشارتْ إلى فعاليةِ حبّةِ البرَكةِ ضدَّ بعضِ أمراضِ السرطانِ؛ كَسرطانِ الأمعاءِ، إذْ تعملُ الحبّةُ على وقفِ نموِّ الخلايا السرطانيةِ، ومنعِ انتشارِها في الجسمِ.
مدينةُ أشباحٍ
وعن التحدّياتِ التي تواجِهُ المعصرةَ؛ أوضحَ “أبو الرائد” أنه عَدا عن ممارساتِ بلديةِ الاحتلالِ في التضييقِ علينا بشكلٍ مستمرٍّ، واستخدامِ الحُججِ القانونيةِ بمَخاطرَ عملِنا؛ إلاّ أنّ الخطرَ الحقيقَ الذي نواجِهُه، والتحدي الكبيرَ؛ هو عدمُ توافُدِ الناسِ إلى البلدةِ القديمةِ من القدسِ، فحينَ تحلُّ الساعةُ الخامسةُ مساءً؛ تتحوّلُ البلدةُ إلى مدينةِ أشباحٍ، مؤكّدًا أنّ إسرائيلَ منذُ احتلالِها للمدينةِ؛ لم تستطعْ أنْ تستوليَ على (1%) من ممتلكاتِها؛ لذلكَ فأيُّ عمليةِ تَسيُّبٍ أو إهمالٍ؛ قد تؤدّي إلى سرقةِ تراثِ المدينةِ بأكملِه.
ويتابعُ قولَه: اقترحَ عليَّ أحدُ أبنائي بتَوسيعِ عملِنا خارجَ أسوارِ البلدةِ القديمةِ، وشراءِ الماكيناتِ التي تجعلُنا نُنتِجُ كمياتٍ أكبرً، ونوَزّعُ لأكبرِ عددٍ ممكِنٍ في جميعِ أنحاءِ الوطنِ؛ لكني رفضتُ الفكرةَ جُملةً وتفصيلاً؛ لأنّ هدفي ليس ماديًّا إطلاقًا؛ فالكَنزُ الحقيقُ الذي نَمتلِكُه اليومَ أغلَى من كلِّ الأموالِ؛ لذلكَ قمتُ بتعليمِ أبنائي سرَّ المهنةِ؛ حتى يَتوارثوها من بعدي، ولا يفرّطونَ بأملاكِ العائلةِ مَهما حصلَ.
وحولَ الصعوباتِ التي تواجِهُ عملَ المعصرةِ؛ أشارَ “الجبريني” إلى الشروطِ التعجيزيةِ التي تَفرضُها بلديةُ القدسِ، ففي السنواتِ الخمسِ الماضيةِ؛ قُمتُ بإعادةِ إعمارِ المعصرةِ مرّتَينِ؛ تَكلّفتْ مبالغَ خياليةً؛ ورغمَ ذلكَ لم تُعِدْ بلديةُ القدسِ لنا رخصةَ مُزاوَلةِ المهنةِ التي سحَبتْها قبلَ عشرِ سنواتٍ؛ بِحُجّة أنّ المكانَ غيرُ مؤَهَلٍ لإنتاجِ الموادِ الغذائية”.
ويضيفُ: نعاني من صعوبةٍ في نقلِ الموادِ الخامِ للمعصرةِ، وتوزيعِ المنتَجاتِ الجاهزةِ على الزبائنَ؛ لأنّ قانونَ البلديةِ يسمحُ بإدخالِ وإخراجِ البضائعِ قبلَ الساعةِ التاسعةِ صباحًا، أو بعدَ السادسةِ مساءً فقط، بالإضافةِ إلى الضرائبِ الباهظةِ المفروضةِ على المحالِّ التجاريةِ بالبلدةِ القديمةِ؛ حيثُ ندفعُ سنويًّا (22) ألفَ شيكلٍ ضريبةَ الأَرنونا”.