خُذوا الأفكارَ والحلولَ والإبداعاتِ حتى من البُسَطاءِ!
قصةٌ قصيرةٌ تَحملُ معانيَ كبيرةً يَجهَلُها كثيرٌ من النّاسِ، تبدأُ قصَّتُنا في هذه العُجالةِ؛ عندَما جاءَ رجلٌ لأَعرابيٍّ وجدَه قُربَ بئرٍ من الماءِ، فلاحَظَ الرجلُ أنّ حِملَ البعيرِ الذي يَمتلِكُه ذاكَ الأعرابيُ كبيرًا وثقيلًا، ولا يُطاقُ، وفيه مَشقَّةٌ كبيرةٌ على تلكَ الدابّةِ ، فسألَ الرجلَ الأعرابيَّ قائلاً له: يا حَبيبَنا؛ هل تسمحُ لي بسؤالٍ فضوليٍّ؟
فقال له الأعرابي: تفضَّلْ أيها الرجلُ الغريبُ.
فسألَه: ماذا تَحملُ بعيرُك هذه؟ يبدو أنه حملٌ ثقيلٌ عليها، ولا تكادُ تُطيقُه!
فقالَ له الأعرابي: إنها تحملُ كيسًا يحتوي على المَؤونةِ، والكيسَ المُقابلَ يحتوي على ترابٍ؛ وضَعتُه ليَستقيمَ الوزنُ في الجِهتَينِ! فلماذا تسألُ؟
فقالَ الرجلُ: لِمَ لا تَستغني عن كيسِ الترابِ، ثُم تقومُ بتنصيفِ كيسِ المَؤونةِ في الجِهتَينِ الاثنتَينِ بالتساوي، فتكونُ بذلكَ قد خفّفتَ الحملَ على هذا البعيرِ المسكينِ المُتعَبِ، الذي لا يستطيعُ الشكوَى.
فقالَ له الأعرابي: واللهِ لقد صدَقتَ أيُّها الرّجلُ.
فقامَ الأعرابيُّ بتوزيعِ حملِ المؤونةِ بينَ الجِهتَينِ، ثُم عادَ الأعرابيُّ إلى الرَّجلِ بسؤالٍ جديدٍ، أيُّها الرجلُ: هل أنتَ شيخُ قبيلةٍ، أَمْ شيخُ دِينٍ، أَمْ رجلٌ ذو مكانةٍ كبيرةٍ بينَ قومِك؟
فقالَ له الرجلُ: لا يا أعرابيُّ، لا هذا، ولا ذاكَ، بل أنا رجلٌ من عامّةِ الناسِ.
فقالَ الأعرابيُّ: قبّحَكَ اللهُ، لا هذا، ولا ذاكَ، ثُم تُشيرُ عليَّ؟ ثُم أعادَ الأعرابيُّ حمولةَ البعيرِ كما كانت، كيسًا من الرملِ في جهةٍ، وكيسًا من المَؤونةِ في الجهةِ الثانيةِ!
انتهتْ قصّتُنا القصيرةُ، ولكم أنْ تخَيَّلوا عقليةَ ذاكَ الأعرابي وتَفكيرَه؟ ولكنّ أبعادَ هذه القصةِ ودلالاتِها لم َتنتَهِ، بل إننا نعيشُها واقعًا في مجتمعاتِنا، وبشكلٍ شِبْهَ دائمٍ، للأسفِ الشديدِ.
كثيرٌ من النّاسِ، والمسئولينَ، وأصحابِ القرارِ، والمُؤثّرينَ في مواقعِهم؛ لا يَهمُّهم الأفكارُ والحلولُ والإبداعاتُ إنْ كانت صائبةً؛ بقَدرِ ما يَهمُّهم طبيعةُ وماهيَّةِ الأشخاصِ الذين قدَّموا هذه الأفكارَ، وهذه الحلولَ، وهذه الإبداعاتُ، فإنْ كانت مُقدَّمةً من أشخاصٍ عاديّينَ؛ تركوهم ولم يأخذوا منهم تلكَ الأفكارَ والحلولَ! ولو قُدّمتْ هذه الأفكارُ والحلولُ والإبداعاتُ من شخصياتٍ ذاتِ منصبٍ وجاهٍ وسلطانٍ؛ انهالوا عليها بالقبولِ والثناءِ والشكرِ؛ حتى لو كانت تلكَ الأفكارُ والحلولُ والإبداعاتُ تافِهةً وبسيطةً، ولا تساوي الحِبرَ الذي كُتِبتْ به.
بصراحةٍ وبدونِ حَرَجٍ، فقدْ كُنتُ شاهدًا على مِثلِ هذه المواقفِ التي حدثتْ أمامي في مجالاتِ عملٍ مختلفةٍ، كان كثيرٌ من الأفكارِ والحلولِ تنسابُ من أشخاصٍ عاديّينَ؛ ولكنها كانت متروكةً ومركونةً، ولا أحدَ يتبَنَّاها، ولا يُعيرُها أيَّ اهتمامٍ؛ لأنها بكُلِّ بساطةٍ جاءتْ من أشخاصٍ مُبدِعونَ ولكنهم عاديُّونَ، ليس لهم مكانةٌ مرموقةٌ هنا أو هناكَ، وكذلكَ أيضًا كنتُ شاهدًا على أفكارٍ تافهةٍ بسيطةٍ غيرِ إبداعيةٍ؛ لكنْ تمَّ تَبَنِّيها في مؤسَّساتٍ مختلفةٍ، وبذلوا عليها أموالاً كثيرةً، ثُم عادتْ عليهم بالخسائرِ؛ بل وعانتْ تلكَ المؤسَّساتُ ؛ بِسَبَبِ هذهِ الأفكارِ طويلاً، وما زالتْ…
الفكرةُ العامّةُ من وراءِ كتابةِ هذا المَقالِ؛ هي أنَّ الأفكارَ والحلولَ والإبداعاتِ ينبغي تَبنِّيها تمامًا، والعملُ بتفاصيلِها، بِغَضِّ النظرِ عن ماهيةِ الأشخاصِ الذين قدّموا هذه الأفكارَ والحلولَ والإبداعاتِ. والسلام ختام.