
تحقيق : السعادة
تعيشُ غالبيةُ الأُسرِ قلقًا وخوفًا متواصلًا من وجودِ الهواتفِ المحمولةِ بينَ أيدي أبنائها طيلةَ الوقتِ؛ لاسيّما وأنّ المرحلةَ الحاليةَ لا تسمحُ للأهالي بأيِّ شكلٍ من الأشكالِ؛ بمَنْعِ الأبناءِ من استخدامِ الهواتفِ المحمولةِ؛ لارتباطِها الكبيرِ بالعمليةِ التعليميةِ، ويأتي القلقُ والخوفُ من موقفٍ مَبنيٍّ على مخاوفَ من احتمالِ تأثُّرِ إدراكِهم، وسلوكِهم، ومشاعرِهم، وطريقةِ تفكيرهمِ، وصحتِهم العقليةِ والنفسيةِ؛ بما يتعرّضونَ إليهِ من محتوياتٍ مختلفةٍ تُقدِّمُها مواقعُ “السوشيال ميديا” المختلفةُ.
تحاولُ الكثيرُ من العائلاتِ إيجادَ حلولٍ مختلفةٍ للسيطرةِ على مخاوفِهم، أو أيِّ تغيُّراتٍ قد تَطرأُ على سلوكياتِ أبنائهم من خلالِ إيقافِ خدمةِ “الإنترنت”؛ بِحُجّةِ الدراسةِ، أو مصادرةِ الهواتفِ المحمولةِ ضِمنَ قواعدِ العقابِ والحسابِ، وتحديدِ عددِ ساعاتِ الاستخدامِ ضِمنَ آليَّةِ الحرياتِ العائليةِ والمسئوليةِ الاجتماعيةِ، وجميعُ هذه الحلولِ مُتعِبةٌ وذاتُ تأثيراتٍ سلبيةٍ وإيجابيةٍ.
يظهرُ تأثيرُ وسائلِ التواصلِ الاجتماعي على الأطفالِ والمراهقينَ جَليًّا، ويكونُ أكثرَ على هذه الفئةِ منه، على الفئاتِ الأكبرِ سنًّا؛ ما يجعلُها مصدرَ خطرٍ على تكوينِ النشءِ، حيثُ ينشرُ العديدَ من الظواهرِ السلبيةِ، والمقاطعِ المسيئةِ، في ظِلِّ انجذابِ قطاعاتٍ واسعةٍ؛ مُعظِمها من الشبابِ والمراهقينَ.
هاجسٌ كبيرٌ
وتشيرُ الإحصاءاتُ إلى أنّ نسبةَ (98.3%) من الأطفالِ في عُمرِ (10) أعوامٍ إلى (14) عامًا؛ يستخدمونَ وسائلَ التواصلِ الاجتماعي، فيما بلغتْ نسبةُ المستخدِمينَ من أعمارِ (15 إلى 19) عامًا (99.9%)، واكتملتْ النسبةُ بواقعِ ( 100% )في الشبابِ من أعمارِ (20 إلى 24) عامًا.
أُم أشرف حلاوة “45 عامًا”، تقولُ ـلـ” السعادة”:” يشكّلُ وجودُ الهاتفِ المحمولِ في يدِ أبنائي الذكورِ قبلَ الإناث هاجسًا كبيرًا من الخوفِ والقلقِ، الذي لا يمكِنُ أنْ أتَجاهلَه بأيِّ شكلٍ من الأشكالِ، وكثيرًا ما أحاولُ أنْ أصادرَ الهواتفَ بِنيَّةِ التقنينِ من الاستخدامِ؛ إلا أنني أعجزُ أمامَ ارتباطِ الهاتفِ بالكثيرِ من الأمورِ اليوميةِ، أهمُّها الدراسةُ.
وتضيفُ: أمنعُ بشكلٍ تامٍّ وجودَ أيِّ كلمةِ مرورٍ على أيِّ هاتفٍ داخلَ المنزلِ؛ ما يتيحُ لي مراقبةَ أيِّ هاتفٍ في الوقتِ الذي أريدُ، وأفصلُ “الراوتر” بعدَ الساعةِ العاشرةِ ليلاً شتاءً، وبعدَ منتصفِ الليلِ صيفًا، وقد حدَّدْتُ من مواقعِ التواصلِ التي يمكنُ استخدامُها؛ فمسموحٌ مثلاً “الواتس أب مع الفيسبوك”، أو “الواتس أب مع الإنستغرام”، أمّا أنْ تكونَ جميعُ المواقعِ متاحةً؛ فأشعرُ أنّ الأمرَ يزيدُ الوضعَ تعقيدًا وتشتيتًا.
وتُتابعُ: كثيرًا ما تَحدثُ نقاشاتٌ مع أبنائي حولَ موضوعِ الهواتفِ والإنترنت المفتوحِ على مدارِ الساعةِ؛ ولكنها في كلِّ المرّاتِ تُحسَمُ إلى صالحِ قراراتي؛ خاصةً أنّ زوجي يدعمُ باتّجاهي في كلِّ قرارٍ اتّخِذُه في هذا الجانبِ، وأحاولُ دومًا أن أكونَ القدوةَ.. فمِن غيرِ اللائقِ أنْ تصادرَ هاتفَ ابنِك؛ بينما أنت تقضي ساعاتٍ طويلةً أمامَه على الهاتفِ، وعادةً ما أقومُ عندَ مصادرةِ الهواتفِ بعملِ فعاليةٍ منزليةٍ مشتركةٍ؛ كالتنظيفِ، أو التعزيلِ، أو الاحتفالِ، أو صنعِ البسكويتِ، أو التسوّقِ، أو اللعبِ بشكلٍ جماعي؛ هذا الأمرُ قلّلَ من كميةِ الاعتراضِ عندَ أبنائي وقتَ إغلاقِ الإنترنت.
في حين يقولُ هاني أبو عمارة “49 عامًا”: “إنّ القلقَ من وجودِ الهواتفِ في أيدي ابنائي؛ يدفعُني بشكلٍ مستمرٍّ إلى أخذِ الكثيرِ من القراراتِ التي تُقلِّلُ من تعرُّضِهم إلى موجةِ الانحرافِ والهبوطِ، التي تَعرِضُها مواقعُ التواصلِ الاجتماعي بشكلٍ لا يمكنُ لأيِّ شخصٍ تلافيهِ.
الرقابةُ الدائمةُ
ويضيفُ: الحلُّ الأمثلُ دومًا في تكثيفِ المراقبةِ؛ ليس لأنك غيرَ واثقٍ بتربيةِ أبنائكَ؛ وإنما لأنّ الهبوطَ عبرَ “السوشيال ميديا” أمرٌ لا يمكنُ ملاحقتُه، أو الابتعادُ عنه، منوّهًا أنه يمنعُ بشكلٍ قاطعٍ بعضَ التطبيقاتِ؛ ولا يسمحُ بتداولِها داخلَ منزلِه بأيِّ شكلٍ من الأشكالِ، واعتمدَ على نظامِ الحساباتِ المشتركةِ؛ حيثُ أنّ أطفالي الثلاثةَ ما دونَ عُمرِ (15) عامًا؛ يشتركونَ في حسابِ “واتس أب” واحدٍ، وحسابِ “فيس بوك” واحدٍ أيضًا، أمّا أكبرُ من ذلكَ فأتبعُ نظامَ الرقابةِ الدائمةِ، وربطِ حساباتي بحساباتِهم بشكلٍ مستمرٍّ.
وحولَ لماذا ينبغي إتاحةُ الإنترنت لأبنائك؟ تجيبُ أحدُ الدراساتِ التي أجرتْها جامعةُ ميشيغان دراسة -شملت (3258) مراهقًا- للمقارنةِ بينَ المراهقينَ المحرومينَ من الاتصالِ بالإنترنت؛ وأولئكَ الذين يستخدمونَه استخدامًا حرًّا؛ وتساعدُهم أُسرُهم على التحكمِ في الوقتِ الذي يمضونًه عليه.
اكتشفَ الباحثونَ جانبًا أكبرَ من الترفيهِ؛ إذْ تُسهمُ تلكَ الوسائطُ في تكوينِ الهويةِ، وتوفّرُ قنواتٍ للدعمِ الاجتماعي، وتمدُّ المراهقَ بالمعلوماتِ وفُرصِ المشاركةِ، كما أنّ كلَّ ساعةٍ يمضيها المراهقُ مستخدِمًا هاتفَه؛ تضمنّتْ (21) دقيقةً من التواصلِ مع أصدقائه.
نشرَ الباحثونَ نتائجَ الدراسةِ أغسطس/آب الماضي؛ وأكّدوا أنّ المراهقينَ المُنعزلينَ عن تقنياتِ اليومِ؛ نتيجةَ تَحكُّمِ الأهلِ، أو ضعفِ البنيةِ التحتيةِ، كانوا أكثرَ انعزالًا عن أقرانِهم، كما أنهم يصارعونَ أزماتٍ متعلقةً باحترامِ الذاتِ، والتعاملِ مع الأقرانِ والأسرةِ والمدرسةِ، وتراجُعِ مستوى الصحةِ العقليةِ والنفسيةِ لدَى المحرومينَ من الإنترنت إلى ( 50%) أقلَّ مقارنةً بمُستخدمي الإنترنت.
كما كشفتْ نتائجُ الدراسةِ عن أنّ المستخدِمينَ المعتدلينَ لهواتفِهم الذكيةِ؛ يُمضونَ وقتًا أطولَ مع أصدقائهم وعائلاتِهم؛ على النقيضِ مما يخلّفُه الحرمانُ من الإنترنت، من انفصالِ المراهقِ عن مصادرِ الترفيهِ والتنشئةِ الاجتماعيةِ، والتواصلِ ومشاركةِ الرأي.
واقترحَ الباحثونَ استخدامَ ألعابِ الفيديو لتعزيزِ المرونةِ الإدراكيةِ التي يحتاجُها الابنُ في حياتِه اليوميةِ، من خلالِ اختيارِ ألعابٍ تعتمدُ على تعقُّبِ الكائناتِ المتعدّدةِ، والتبديلِ السريعِ للانتباهِ، والبحثِ، وحلِّ المشكلاتِ، والإبداعِ، وسرعةِ ردِّ الفعلِ، مع التشديدِ على ضرورةِ ملاحظةِ مدَى تأثيرِ ألعابِ الفيديو على التغيّراتِ السلوكيةِ أو العصبيةِ، نتيجةَ بعضِ الألعابِ التي تحفزُ السلوكَ العنيفَ.
من جهةٍ أخرى، أكّدتْ نتائجُ دراسةٍ أخيرةٍ لجامعة “أكسفورد” ضرورةَ متابعةِ سلوكِ المراهقِ عندَ استخدامِ الإنترنت، والانفتاحِ على مناقشةِ الاستخدامِ الخاطئ لوسائلِ التواصلِ الاجتماعي، وأخطارِ استخدامِ الإنترنت، ومساعدةِ المراهقِ على تطويرِ مهاراتِه الاجتماعيةِ، ومنحِه حيزًا من الاستقلاليةِ عندَ استخدامِ الإنترنت.
تفاعليةٌ لا منهجيةً
لذلك، اقترحَ باحثونَ في جامعة “كولومبيا” البريطانيةِ مشاركةَ المراهقينَ في مجموعاتِ نشاطاتٍ تفاعليةٍ لا منهجيةً، مِثلَ الرياضةِ والفنونِ؛ لتقليلِ الوقتِ الذي يمضيهِ المراهقُ مستخدِمّا هاتفَه، ورفعِ مستوى الرضا عن الحياةِ والتفاؤل، وتقنينِ استخدامِ الهاتفِ للحفاظِ على التواصلِ مع الأصدقاءِ، وأفرادِ الأسرةِ عبرَ الإنترنت.
من جانبِها تقولُ الدكتورة “حكمت عليان المصري” مستشارةٌ تربويةٌ وأسريةٌ:” إنّ حمايةَ أنفسِنا وأطفالِنا من “المحتوى غيرِ اللائقِ” على الإنترنت؛ يتبعُ بعضَ المعاييرِ العالميةِ كمُرتكزاتٍ أساسيةٍ يتوجّبُ علينا اعتمادُها والبناءُ على أساسِها، أوُّلها ماذا يعني غيرَ لائقٍ؟ وهنا يجبُ التنبُّه إلى أمرٍ مُهمٍّ؛ وهو أنّ توصيفَ المحتوَى بـ” غير لائق” لا يعني بالضرورةِ أنّ المحتوَى غيرُ قانونيّ، إذْ يمكنُ أنْ يتضمّنَ مثلًا مَشاهدَ عنيفةً؛ يمكنُ للكبارِ فقط مشاهدتُها، أو مَشاهدَ عروضِ سيركٍ خطيرةٍ على الأطفالِ؛ إذا حاولوا تقليدَها على أرضِ الواقعِ، لأنّها قد تشجِّعُهم على الانخراطِ في سلوكٍ محفوفٍ بالمخاطرِ، ويؤذي الآخَرينَ.
وتضيفُ: لا يمكنُ منعُ الأطفالِ أو المراهقينَ من استخدامِ الإنترنت؛ لأنّ ذلك سيجعلُهم أكثرَ شغفًا وإلحاحًا لمعرفتِها. ولكنْ باستخدامِ بعضِ الحنكةِ والتعقُلِ؛ يمكنُ تقنينُ هذه الظاهرةِ، وتوجيهُها نحوَ الطريقِ الصحيحِ؛ لذا يجبُ أنْ نوجِّهَ الصغارَ إلى استخدامِ محرّكاتِ البحثِ الخاصةِ بهم، أمّا إذا كانوا مراهقينَ؛ فيجبُ توعيتُهم بضرورةِ الاستئذانِ قبلَ تحميلِ أيّ برنامجٍ على أجهزتِهم، وعدمِ إعطاءِ كلماتِ السرِّ الخاصةَ بهم، حتى إلى أصدقائهِم المقرّبينَ، علاوةً على التحقّقِ من إعداداتِ الخصوصيةِ الخاصّةِ بحساباتِ الأبناءِ على شبكاتِ التواصلِ الاجتماعي وألعابِ الفيديو، وتذكيرِهم دائمًا بضرورةِ عدمِ البوحِ بأيّ بياناتٍ شخصيةٍ للآخَرينَ؛ مِثلَ عنوانِ البيتِ، أو أرقامِ الهواتفِ الأرضيةِ والمحمولةِ، أو أماكنِ عملِ الوالدينِ، أو كلماتِ السرِّ الخاصّةِ وغيرِها، بالإضافةِ إلى توعيَتِهم حولَ كيف التصرّفُ عندما يشاهدونَ محتوىً غيرَ لائقٍ، أو يقابلونَ أشخاصًا مزعجينَ.
وتتابعُ: الحوارُ مع الأطفالِ ضروريٌّ لشرحِ حسناتِ ومخاطرِ المحتوَى؛ هذا الحوارُ يجعلُ من الطفلِ_ وإنْ كان صغيرًا_ أكثرَ وعيًا، ويمنحُه المسؤوليةَ بضرورةِ إخبارِك عندما يلاحظُ خطرًا ما، أو يتعرّضُ له مع إظهارِ اهتمامِك بالمحتوَى الذي يحبُّه.
مستطرِدةً: إنّ استخدامَ برامجِ المراقبةِ الأبويةِ؛ بهدفِ حمايةِ الطفلِ من مشاهدةِ المحتوَى غيرِ اللائقِ مُهِمٌّ؛ ولكنْ من المهمِّ معرفةُ أنّ هذا الأمرَ لا يقتصرُ على المنزلِ فحسْب، لأنّ طفلكِ سيكونُ غيرَ محميٍّ في حالِ قامَ باستخدامِ الإنترنت خارجَ منزلِه؛ لذا عليكِ وضعَ قواعدَ وأُسُسٍ تُرضي الطرَفينِ، مِثلَ: تحديدِ مقدارِ الوقتِ الذي يمضيهِ الطفلُ على الإنترنت، والموعدِ المناسبِ لاستخدامِه، والمواقعِ التي يزورُها، والصوَرِ والروابطِ والفيديوهاتِ التي يشاركُها مع الآخَرينَ.
ختامًا، لا بدّ من الوثوقِ والتأكّدِ أنّه حتى أفضلُ الحواجزِ التقنيةِ يمكنُ التغلّبُ عليها، ويصبحُ الأطفالُ مع تقدّمِهم في السنِّ، واكتسابِهم المزيدَ من الخبرةِ، أكثرَ حيلةً في تخَطّي هذه الحواجزِ؛ لذلكَ ينبغي على الآباءِ أنْ لا يعتمدوا كثيرًا على الحلولِ التقنيةِ فقط؛ بل أيضًا على الحوارِ والتفاهمِ من خلالِ الشرحِ لأطفالِهم؛ لماذا قد لا يزالونَ صغارًا جدًّا على مُشاهدةِ بعضِ المحتوياتِ، وكيف علينا تجنُّبَها وعدمَ التأثّر بها.