“التيك توك” بخلّينا نراهق على كِبر!
في هذا العالمِ الّذي قارَبَ فيه مقياسُ درجةِ الجنونِ حدَّ الانفجارِ، يبقَى أنْ أُحَيِّيَ النّسبةَ القليلةَ التي تبقّتْ من العقلاءِ.. ولن أدَّعيَ أنني ممّن تبقّوا، فلعلَّ عدوَى الجنونِ والانحدارِ قد تُصيبُني مِثلَ طوفانٍ يغمرُ كلَّ ما يعترضُ طريقَه دونَ رحمةٍ.
“التيك توك” هو عنوانُ المرحلةِ، يُبرِزُ مَن يحلو له؛ ويَطمِسُ ما يشاءُ ، لم أعُدْ أعرفُ إنْ كانت الكتابةُ مازالتْ تسمَّى مُوهِبةً ، فها هو طوفانٌ جديدٌ من المواهبِ الّتي لا معنَى لها، ولا هدفَ، ولا رسالةً، ولا مبادئَ، تصبحُ هي في الصّدارةِ المحليّةِ و العالميّةِ لهذا التَّطبيقِ الدخيلِ ، إنه باختصارٍ عالمُ المواهبِ الخَرقاءِ، الّذين قالَ عن أمثالِهم نِيتْشِه: ” هؤلاءِ يكدِّرونَ مياهَهم، كي تبدو عميقةً”.
بسرعةٍ خياليّة، أصبح “تيك توك” الأهمَّ والأكثرَ زيارةً من الرّوادِ الافتراضيِّينَ؛ ما جعلَ هذا الانتشارَ يغزو عقولَ شبابِنا وأطفالِنا ومراهقينا .
ها أنا أرَى كلمتَي “تيك توك” تركُضانِ كفكٍّ مفتوحٍ يزدرِدُ ويبتلعُ ما يرى من شبابٍ.. وها أنا أفقِدُ القدرةَ على عدِّ الضَّحايا الجُدُدِ .
بعيدًا عن تفاصيلَ من برزَ اسمُه، ومن زارَ، ومن رحلَ، ومن غنَّى، ومن نافسَ، ومن أصبح “ترندا” بمفهومِ هذا العالمِ الافتراضي.
لكني أحبُّ أنْ أقولَ؛ بأنّنا نواجِهُ خطرًا حقيقًا؛ ألا وهو تعظيمُ التفاهةِ، والانصرافُ عن كلِّ ما هو نافعٌ، والبعدُ عن القدواتِ الحقيقةِ النافعةِ..
إنّ المتأمِّلَ في اهتماماتِ الناسِ يفزعُ من المستقبلِ القريبِ؛ ويتيقَّنُ بأنّ الحِملَ ثقيلٌ على كاهلِ الأهالي والمصلِحينَ وأصحابِ المبادئِ؛ ليَسودَ نظامُ التّفاهةِ وسيادةِ الرّداءةِ .
هنا أستعيرُ ما قالَه “آلان دونو” في كتابِه “نظامُ التّفاهةِ” الذي أطلقَه قبلَ شعبيةِ “تيك توك” كما الآن: “زادتْ شبكاتُ التواصلِ الاجتماعي من التّفاهةِ، وصنعتْ عقلاً جماعيًّا من التّفاهةِ، وصار بإمكانِ التّافهينَ أنْ يكونوا رموزًا من خلالِ عددِ الإعجاباتِ التي يحصلونَ عليها، ويُلاحظُ هنا تقلُّصُ صوَرِ النّجاحِ التي تعارفتْ عليها البشريةُ، والتي كانت معاييرُها العملَ الجادَّ والصّالحَ أو التّفوُّقَ، لصالحِ معيارٍ واحدٍ هو: المالُ أو اللّامُهِمُّ.
فما نراهُ هو تسخيفٌ لقيمةِ العقلِ، وإطالةُ «زمنِ المراهَقةِ» إلى ما فوقَ الثَّلاثينَ، من خلالِ هذا التّطبيقِ، فقد كانت سياسةُ “تيك توك” تعبيدًا لطريقِ الشهرةِ بأقلِّ الوسائلِ المُمكِنةِ، أو بالأحرَى بلا وسائلَ، حيثُ يمكنُ لأيِّ مُستَخدِمٍ التّمتّعَ بمنصّةٍ تداوليّةٍ تضعُه في الحالِ أمامَ الآلافِ، وهاهم أكثرُ الناسِ تفاهةً يحملونَ بسرعةٍ حساباتٍ موَثَّقةً بالشّاراتِ الزّرقاءِ؛ كما لو كانوا حساباتِ شخصياتٍ كبيرةً؛ وهو ما يجعلُهم يُغرِقونَ في تقديمِ جديدِ الأتفاهِ كلَّ يومٍ، وغدتْ بعضُ الشركاتِ، والمؤسساتِ، والفنادقِ، والمطاعمِ، تستقبلُ أكثرَهم شعبيّةً من أجلِ التّرويجِ التّسويقيّ، وجلبِ اهتمامِ الزّوارِ، وغيرِها من المصالحِ التّجاريةِ .
بالمقابلِ، الحساباتُ ذاتُ المحتوَى الاجتماعيّ الايجابيّ الهادفِ؛ تبقَى جامدةً محرومةً من التفاعلِ؛ لرُبما تموتُ من التجمُدِ والقيودِ ،لا وصولَ لها، ولا تفاعلاتٍ تثيرُ الاهتمامَ، فالترند من وِجهةِ نظرِهم ليس في هذا المَوضعِ .
خلاصةُ الكلامِ، ومن الآخِرِ، يمكِن كلامي لا يُعجِبُ كثيرًا من الناسِ، لكنْ ما نراهُ من انفكِاكٍ، وانحلالٍ، وغزوٍ لبُيوتِنا ومجتمعِنا_ بسببِ اختراقِ “التيك توك” تحديدًا_ ؛يحتاجُ لِلَحظةِ إدراكٍ، ووَعيٍّ، ورقابةٍ ذاتيةٍ، فأبناؤكم أمانةٌ في رقابِكم، ورُبَما الآنَ تستطيعونَ التدَخُلَ أو المعالَجةَ؛ لكنْ ما بتوقع بعد هيك، نقدر ننصح، أو نحكي معاهم أصلاً، فنصيحة قدوتهم في “التيك توك” هي أهمُ وأجملُ وأصوَبُ.
“كلُّ ما يُبالَغُ فيه؛ هو أمرٌ غيرُ ذي أهميّةٍ” انتهى الكلامُ.
#سلامتك_وتعيش