ازرعْ لصيفِكَ شجرةً لتستظلَّ بها
قرأتُ على حسابِ أحدِ المؤَثِّرينَ في مدينةِ غزة أنَّ ” رجلاً مُسِنًّا يعيشُ عندَ ابنتِه وزوجِها، و لدَيهِ ثلاثةٌ من الأبناءِ الذكورِ “بشَنبات” يقفُ عليها الصقرُ “
كيف قرأتُها؟ وكيف تصوّرتُ تفاصيلَها ، سأكتبُه ولكنْ بعدَ قليلٍ.
في زيارةٍ سابقةٍ إلى مركزِ الوفاءِ لرعايةِ المُسِنينَ؛ ما يُعرَفُ بدارِ العَجزةِ ، سألتُهم عن شروطِ قبولِهم للنزلاءِ؛ فكان أولُ شرطٍ أنْ لا يكونَ له ولدٌ ذَكرٌ ، فقاطعتُ مديرَ الدارِ في حينِها، وسألتُه “وإنْ كان له بناتٌ” ؟ فَردَّ :” البنتُ المتزوجةُ لا تَحكمُ بأنْ تُسكِنَ والدَيها في بيتِها “
فقلتُ له: وإنْ كانت عاملةً؛ ولها ذِمّةٌ ماليّةٌ خاصةٌ بها ؟
وإنْ كان!
واسترسلَ هو بالشروطِ، وسرحتُ قليلاً في سَنِّ القوانينِ؛ إنْ لم تكُنْ تُراعي أحكامَ الشريعةِ، وتَرقعْ العَورَ المجتمعي ؛ تكُنْ جائرةً ،وتدفعْ للعشوائيةِ لا لتنظيمِ سَيرِ الحياةِ.
نعودُ إلي الحالةِ التي كُتبَ عنها في إحدى صفحاتِ “السوشيال ميديا “
ثلاثةٌ من الأبناءِ الذكورِ؛ لم يستطيعوا رعايةَ والدِهم؛ فلجأَ الأبُ العجوزُ إلى فساحةِ قلبِ ابنتِه.
لا نعرفُ تفاصيلَ قصتِهم ، ولكنْ للفائدةِ وعدمِ الحُكمِ المُسبقِ ، سنضعُ احتمالاتٍ :
الاحتمالُ الأولُ، وهو الأجملُ ، أنَّ الأبَ اختارَ بيتَ ابنتِه وزوجِها الطيّبِ للعيشِ معهم؛ لأنه يتحرّجُ من طلبِ الخدمةِ من زوجاتِ أبنائه ” الكناين ” غيرِ المُقصِراتِ .
الاحتمالُ الثاني، فقرُ أبنائه، وضِيقُ بيوتِهم ، فأرادتْ الابنةُ البارّةُ الكريمةُ أنْ تَحملَ عِبءَ والدِها عن إخوانِها الذين داهَمتْهم قلّةُ ما في اليدِ .
الاحتمالُ الثالثُ، أنّ الأبَ العجوزَ الذي أصابَهُ الكِبَرُ عِتيَّا؛ أصبحَ نفسيًّا لا يطيقُ العيشَ إلاّ مع مَن يَفهمُه أكثر ، فكانت ابنتُه هي تلكَ.. ، رغمَ سخاءَ أبنائه ماديًّا ونفسيًّا تُجاهَه .
الاحتمالُ الرابعُ، وهو الأسوَأُ، رفضُ زوجاتِ الأبناءِ خدمةَ الأبِ العجوزِ؛ فَرضَخَ الأزواجُ الاشاوِسُ لرغباتِهنَّ الشريرة ِ .
هذه سيناريوهاتٌ يجبُ أنْ يضعَها كلُّ عاقلٍ واقعيٍّ ، دونَ نَسْبِ التقصيرِ والعقوقِ لأحدِ.
المهمُّ أنّ تلكَ البنتَ التي يُحتملُ أنه قد اسوَدَّ وَجهُ هذا الأبِ في شبابِه من الحزنِ عندَ ولادتِها ، فقد كان يقصدُ في حينِها من اللهِ ذَكرًا؛ ليكونَ سَندًا له عندَ العَوزِ والعجزِ، وهو لا يدري أين الخيرُ!
أيُّها الأبناءُ (ذكورًا و إناثًا)
قالَ أحدُهم مَن وَقَّرَ أباهَ طالَ عُمرُه ، ومن وقّرَ أمَّه رأى ما يَسُرُّه ؛ هذا مَآلُ مَن وقرَّ واحترمَ؛ فما بالُكَ
بمَن رعَى، وطَبطَبَ، وسهرَ الليالي على راحتِهما؛ كما سهروا هم عليه في صِغرِه !
الأبُ يحملُ طرَفَ ثوبِه، يُهروِلَ يمنةً ويُسرةً للكسبِ؛ ليُربِّيهِ على الحلالِ، حتى ولو قلَّ ، والأمُّ تعيشُ معه منذُ كان نطفةً رعايةً واهتمامًا ودعاءً للهِ بالخيرِ له ، تُحيِي نهارَها، وتنامُ ليلَها، وهي تفكّرُ في أمنِه وسلامتِه، واحتياجاتِه، وتوفيقِه.ِ
وفي هذا المختصرِ لِما يقدِّمُه الآباءُ والأمهاتُ، والذي يُكتبُ في مضمونِه صفحاتٍ وصفحاتٍ؛
نرَى إنكارَ البعضِ للأسفِ ،فجهلُ أو إنكارُ الإنسانِ لحقوقِ المُنعِمِ عليه؛ هذا من أخَسِّ صفاتِ البشرِ ، فجحودُ عطايا الغيرِ؛ تكونُ تعليلاً لسوءِ المُنقلَبِ ، ومن ثَم يُقلّبُ كفَّيهِ حسرةً.. لماذا حدثَ بنا هذا!؟
فلْيَعلمْ البارُّ بوالدَيهِ؛ أنّه مَهما بالغَ في بِرِّهِما، لن يفي شَكرَهما ، درستُ قديمًا مادةَ حقوقِ الإنسانِ في الشريعةِ والقانونِ قبلَ عَقدينِ ونصفٍ من الزمنِ؛ لم أتذكّرْ منها سِوَى معلومةٍ كثيرًا ما استعنتُ بِها في هذا السياقِ؛ وهي “إنّ الأبناءَ لا يوّفّونَ حقوقَ آبائهم سِوَى بحالةٍ واحدةٍ؛ وهي أنْ يقعَ الوالدانِ في الرِّقِّ عبيدًا؛ ثُم يقومُ الأبناءُ بشرائهِم وعِتقِهم”
أوقَفتْني هذه المعلومةُ كثيرًا؛ وكان تفسيرُها أنّ الوالدَين كانا سببًا لحياتِك، وأنَّ الرِّقَ مُضادُ الحياةِ،
فحينَ تقومُ بهذه الفعلةِ؛ تكونُ قد أعدتَ لهما حياتَهما المسلوبةَ .
لم نَعدْ في عصرِ النخاسةِ والرقيقِ والعبيدِ؛ لهذا ما عليكَ سِوَى وضعِهم على رأسِكَ، و مُلامسةِ احتياجاتِهم، والعيشِ في رحابِ بَركةِ دعواتِهم التي هي سبيلٌ لحياةٍ رغيدةٍ لكَ ، ولتَحذَرْ من دعائِهما عليكَ؛ ففيهِ استئصالُ الخيرِ من مَسارِكَ ،وبوارُ أرضِكَ، وأرضِ ذراريكَ _لا قدَّرَ اللهُ_.
وتذكَّرْ أنَّ ما تقدِّمُه هو القليلُ، وهو ادِّخارٌ في رصيدِكَ، وتحصينٌ لحياتِكَ من العَوزِ عندَ العجزِ ، فاحرِصْ أنْ تُعلِّمَ أبناءَك بِرَّكَ، فالجزاءُ من جنسِ العملِ .
فازرَعْ في شبابِكَ شجرًا وافيًا كافيًا؛ لِتستظِلَّ تحتَه في حرِّ كِبَرِكَ .