مرآتي
(1) ضيق
في وحشة المدينة المتمددة على أنقاض المخيم والبيارة، ننسى تفاصيل الجمال، وفي زحمة الطرق المعبدة وأبواق السيارات، تتوه منا رائحة الرمال المبللة بالمطر، وأصوات العصافير الموزعة على جانبي الممر، ومع ضيق الوقت وتكرار التأخير، وصراع الخطوات القليلة التي تفصل أبواب منازلنا عن السيارة، تتلاشي لحظات التأمل، والأنفاس العميقة..
يوماً بعد يوم يستحكم الروتين المُتخم بالمباني الرمادية، والأضواء الملونة، والإسفلتات الجامدة، حتى أصبحت أبسط المشاهد الطبيعية النافرة عن سطوة المدينة، لوحة بديعة تدهشنا، وتستفز ذكرياتنا القريبة، حيث كان لون حياتنا أخضر ناضراً، فتسحرنا حشائش قطعة مربعة من الأرض الفارغة صمدت محشورة بين العمارات المتكدسة، ويطربنا صوت وقع خطواتنا على الأوراق الجافة والحصى، وتذهلنا نبتتان نَمتا على جانب الرصيف، متسلقتين جداراً أو سياجاً..
يوماً بعد يوم تضيق الأرض بمكوناتها الأصيلة، لحساب الوافد المدنيّ الجديد، وتضيق صدورنا معها!
(2) الحبيب
في صباح ماطر لطيف، كان الرجل الجالس في المقعد الأمامي من السيارة على ما يبدو مصاباً بالبرد، فكان يسعل مراراً، وأحياناً يعطس، ورغم ما بدا عليه من التهذيب والأخلاق العالية، في حديثه وطلباته، إلا أن ما لفت الانتباه أكثر، أنه كان كلما سعل سعلةً أتبعها مباشرة بقوله “حبيبي يا رسول الله”، فيهرع كل من في السيارة إلى الصلاة والسلام عليه، وكان يكررها كل مرة، مهما اشتد سعاله، ثم في تحركه ونزوله وكلامه كان يسبق كل جملة أو يُتبعها بالصلاة على النبي أو الدعاء بشفاعته، عندما انصرف ترك الجميع في موجة من المشاعر الغامرة، وآلاف الصلوات على سيد الخلق والمُحبّين.
(3) أجندة
(النص التالي هو تعبير عن رأي شخصي، لا يقصد به التقليل من اتجاهات أحد أو اختياراته، ولا الدعوة لمقاطعة فكرة أو إنتاج)
منذ ثلاثة أعوام، توّقفتُ عن شراء أجندة العام الجديد، ليس لأنني لا أحبها، فأنا أكثر من يقتني دفاتر وأقلاماً، وليس لأنني شخص غير ورقي، بل إنني أستخدمها في كل شيء، بدءاً بكتابة مقال طويل، حتى قائمة احتياجات السوق، وليس لأنها غير عملية فعلياً، فأنا شخص مولع بالتخطيط وتدوين التفاصيل..
توقفت عن شراء الأجندة –رغم أن صناعتها تزداد جمالاً وجاذبية- لأن الكماليات تغلغلت فينا حتى النخاع، والمظاهر طالت حتى أنماط حياتنا، وشكل مقتنياتنا، لك تعد الأجندة مجرد مجموعة أوراق ترتب المواعيد، وتدون الملاحظات، وتختزن الأفكار والذكريات، بل أصبحت متطلباً للأشخاص ذوي المستوى الثقافي الرفيع، والاقتصادي الأرفع! وأداة من أدوات مدوّني الجمال والتفاؤل ولحظات الصباح والمساء والعصر والليل والظهيرة، ومع ملاحظة كيف أصبحت جزءاً من مجموعة كاملة من الأدوات التي تبقى فارغة حتى آخر العام، ويساوي ثمنها ثمن قطعة صوفية دافئة تعيش لأكثر من عام، أرى أنها أصبحت مؤشراً على الترف المكتبي للموظف المطحون والطالب المغموس..
هذا كله أضفته إلى سبب سابق أدركته أيام كنت أدون يومياتي، وجعلني أتوقف عنها أيضاً، أن الأيام كلها تتشابه، والأحداث العظيمة تحفظها الذاكرة قبل الأوراق، ولحظات الألم لا يجب أن تدوّن، والمذكرات الحقيقية هي ما تحتضه الذكريات..
توقفت عن شراء الأجندة، وما يصاحبها من جيش شكليات لا طائل منها، واحتفظت بدفاتري الجميلة، خالية الصفحات، التي تمنحك الأسطر بلا حساب، والصفحات بدون تقييد، تكتب فيها كل ما تحتاج من غير أن تحشرك صفحة اليوم والتاريخ والساعة في مساحة لا تكاد تكفي مواعيدك..لأن الأوراق هي آخر ملاذات النفس عند الاختناق في الحياة، وآخر ما أحتاجه اليوم هو الاختناق على الورق!