Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
مقالات

عندَما تَضَعُنا الحياةُ في مَواضِعِ التجرِبةِ

 

 

 

تضَعُنا الحياةُ في مواضعَ؛ لا نُدرِكُ صعوبتَها إلّا بالتجرِبةِ، وليس هناكَ صعوبةٌ يمكنُ أنْ يتخيَّلَها الفردُ في حياتِه؛ تُشبِهُ أنْ ترَى طفلَكَ في أضعفِ حالتِه الصحيةِ، أنْ تتراكمَ عليكَ مشاعرُ الوجعِ والقهرِ والعجزِ مجتمعةً، أنْ تبكيَ في كلَّ لحظةٍ من داخلِ قلبِك وحيدًا دونَ أنْ تُطبطِبَ عليكَ يدٌ ما؛ هذا تحديدًا ما يَحدثُ مع النساءِ أجمعَ عندَ مرضِ أبنائهِنَّ، يُكتَبُ عليهِنَّ بثقافةِ المجتمعِ أنْ يَكُنَّ إلى جانبِ أبنائهِنَّ كلَّ الوقتِ دونَ مُعينٍ.

في أروِقةِ المستشفى التي مكثتُ فيها شهورًا متواصلةً؛ كنتُ لا أرَى إلّا الأمهاتِ؛ هنَّ القائماتُ المرابطاتُ في مراحلِ العلاجِ المختلفةِ ليلاً نهارًا؛ دُونَ سنَدٍ أو يدٍ حانيةٍ تقولُ لهنَّ: “إننا بجانبِكُنَّ”، يأتي آباءُ الأطفالِ في زياراتٍ عابرةٍ لا تتعدَّى ربعَ إلى نصفِ ساعةٍ؛ ثُم يغادرونَ تاركينَ وراءَهم الأمَّ والطفلَ المريضَ.

حتى إدارةُ المستشفى والعاملونَ هناك؛ يتعاملونَ معَ الأبِ كأنَّه زائرٌ لا أكثرَ، فالتفاصيلُ المَرضيةُ جميعُها معَ الأمِّ، وتَواصلُ الممرضينَ مع الأم، الأمُّ وحدَها من تُدرِكُ تفاصيلَ كلِّ شيءٍ في مرضِ ابنِها؛ بينَما يُستدعَى الأبُ في حالاتٍ صوريةٍ مضحِكةٍ في بعضِ الأحيانِ؛ لِيُوَقِّع على ورقةٍ ما، أو ليسمحَ للصغيرِ المريضِ بالسفرِ؛ إذْ لا يُسمَحُ للأمهاتِ السفرُ بأطفالِهنَّ عبرَ معبرِ ” إيرز” حتى للعلاجِ؛ إلّا بإمضاءِ الأبِ، بينَما يتلقَّى الطفلُ جرعاتِ الكيماوي الحارقةَ لِجسدِه دونَ وجودِ الأبِ إلى جوارِه.

لا أعرفُ حقيقةً مَن الذي اختارَ لِلأُمِّ هذا القالبَ من العطاءِ غيرِ المُنقطِعِ، ومَن الذي وضعَ للأبِ هذا القالبَ الضيّقَ؛ في حالِ تَعرّضَ لتجربةِ مرضٍ مُزمِنٍ أو خطيرٍ لأحدِ أبنائه! مَن الذي سنَّ على الأمهاتِ أنْ يجلسْنَ مع أطفالِهنَّ شهورًا ممتدّةً دونَ راحةٍ، أو تقديرٍ، ومساندةٍ! ومَن الذي سنَّ للأبِ أنْ يزورَ طفلَه مرّةً كلَّ يومَينِ، أو كلَّ أسبوعٍ! مِن أين جاءتْ هذه الثقافةُ المجتمعيةُ المتعِبةُ للنساءِ في مفاصلِ الحياةِ!

الأمُّ هي المطلوبُ منها مرافقةَ طفلِها إلى الروضةِ، ثُم المدرسةِ، مطلوبٌ منها متابعةَ تعليمِهم في كافةِ مراحلِ الحياةِ، و هي مَن تُحاسَبُ إذا قصَّروا ، هي المطلوبُ منها تدبيرَ لقمةِ الطعامِ؛ إذا ما تعرّضتْ العائلةُ إلى هزّة ٍاقتصاديةٍ؛ أو إذا كان وضْعُ العائلةِ الاقتصادي سيِّئًا، إذا رُزقتْ العائلةُ بطفلٍ من ذَوي الاحتياجاتِ الخاصةِ؛ فالمطلوبُ من الأمِّ متابعةَ شؤونِه كاملةً، مطلوبٌ من الأمِ اصطحابَ أطفالِها إلى عياداتِ الرعايةِ والتطعيمِ والأطباءِ ، مطلوبٌ من الأمِّ الوقوفَ في طوابيرِ الكوبوناتِ والجمعياتِ الأهليةِ ، مطلوبٌ منها كلَّ شيءٍ لأجلِ أيِّ شيءِ؛ فقط لأنها الأمُّ.

في تجرِبتي الأخيرةِ في مواجهةِ السرطانِ مع صغيري “ياسين”؛ منذُ اللحظةِ الأولَى لدخولِنا المستشفَى؛ كُنا برفقةِ “ياسين” أنا وزوجي؛ لم يكنْ يترُكُنا لحظةً واحدةً؛ إلّا في الأوقاتِ الليليةِ التي يُمنعُ فيها نومُ الرجالِ داخلَ القِسمِ، وكنتُ أشاهدُ نظراتِ الاستغرابِ من النساءِ قبلَ الرجالِ، وكثيرًا ما كانوا يسألونَني: هل يعملُ زوجُكِ؟ فأُجيبُ بنَعمْ؛ فيَستغرِبونَ كيف يعملُ وهو يتواجدُ معكِ ومعَ طفلِكِ منذُ ساعاتِ الصباحِ الباكرِ؛ وحتى الليلِ! فكنتُ أُجيبُهم: إنه في إجازةٍ طويلةٍ منذُ اللحظةِ الأولى لمرضِ “ياسين”؛ فيزدادُ استغرابُهم …!!

مع الوقتِ أدركتُ أنَّ استغرابَهم شيءٌ طبيعيٌّ؛ فهو الرجلُ الوحيدُ الذي يتردّدُ على غرفةِ ابنِه المريضِ منذُ ساعاتِ الصباحِ؛ إلى نهايةِ المساءِ، لم يتركْنا نواجِهُ شيئًا من تبِعاتِ رحلةِ مرضِ السرطانِ وحيدَينِ؛ بل كان إلى جانبي دومًا يُطَبطِبُ عليَّ وعلى طفلي؛ يُمِدُّني بالقوةِ في كلِّ لحظاتِ الضعفِ، يبذلُ كلَّ ما في جهدِه؛ لأن يَشعرَ “ياسين” بالأمانِ. في مرضِ صغيري شعرتُ تمامًا ماذا تعني المشارَكةُ بينَ الأزواجِ وحقيقتُها؟ فأنْ تشاركَ زوجةَ الحياةِ؛ فهذا لا يعني أنْ تشاركَها الطعامَ والغرفَ والسريرَ فقط؛ ، بلْ أنْ تشاركَها النفسَ والمشاعرَ والوَجعَ، وأنْ تسنِدَها كُلّما شعرتَ أنها ستَميلُ؛ لتَسندَك كُلّما شعرتْ أنكَ ستَميلُ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى