بينَ الرأيِّ وعكسِه
يوجدُ لدَينا خلطٌ قليلٌ بينَ التعبيرِ عن الرأيِّ تُجاهَ فعلٍ ما؛ والحُكمِ العام على صاحبِ هذا الفعلِ، فأنا حينما أنتقدُ حزبًا، أو شخصًا، أو مؤسسةً؛ أنتقدُ فعلاً..؛ ولا أنتقدُ بهدفِ التجريحِ والتشهيرِ بالأشخاصِ؛ وهذا للأسفِ أمرٌ عرفتُه مؤخّرًا !! أو عرفتُ أنّ المجتمعَ لا يفرّقُ بينَ الاثنينِ؛ حينما بدأتْ تأتيني أسئلةُ على شاكلةِ:” أنتِ لماذا تتقصَّدينَ فلانًا؟!! ما الذي فعله لكِ؟!” ثم إذا مدحتُه قالوا :” حيَّرْتينا، أنتِ معهَ ولَّا عليه ؟!! ”
وأنا بكلِّ صراحةٍ، لا أذكرُ “فلانَ” الذي يقصدُ أنني انتقدْتُه أو جرحْتُه، أنا أتحدّثُ عن فعلِ فلان، ولا أقصدُ شخصَه!! ؛ وهذا يدفعني للإعجابِ بفعلٍ آخَرَ؛ قام به نفسُ الشخصِ، ثم مدحتُه، ببساطةٍ.
ولقد رأيتُ _للأسف_ صحافيينَ، وكُتابًا، وشخصياتٍ اعتباريةً؛ لا يستطيعونَ فصلَ تجربتِهم الشخصيةِ؛ فيَظهرُ جليًّا أنّ أيَّ فعلٍ يقومُ به حزبٌ، أو مؤسّسةٌ، أو أيَّ جهةٍ سياسيةٍ، يقفُ لمن يكرهُهم بالمرصادِ.
النقدُ هنا دائمًا يفَسَّرُ على أنه مؤامرةٌ! والمَدحُ كذلك يُفسّرُ على أنه مؤامرةٌ؛ وكلُّه من وراءِ السياسةِ التي جعلتْ التعبيرَ عن الرأيِ دائمًا وفقَ أجندةٍ سياسيةٍ، فلا أحدَ يُعبّرُ بصراحةٍ، ولا يغيِّرُ رأيَّه حتى لو اكتشفَ أنه على خطأٍ! ببساطةٍ، رأيُ الأغلبيةِ ليس مُلكًا لهم في كلِّ مرّةٍ !
قبلَ أيامٍ، حينما انتقدتُ إجراءاتِ البلديةِ بعدَ هطولِ الأمطارِ الذي أغرقَ البلادَ؛ عُدتُ لتبريرِ ما حدثَ؛ فمدَحتُ عملَها بناءً على رأيِ مهندسٍ مختصٍّ بالبِنَى التحتيةِ؛ يَعرفُ ما تقومُ به البلديةُ، وما سبَّبَه مستوى الهطولِ غيرِ المسبوقِ من الأضرارِ، سألته عن رأيِه، فأجابَ، ونقلتُ للناسِ رأيَّه؛ فانهالتْ عليَّ الانتقاداتُ، فأنا التي انتقدتُ صباحًا عملَ البلديةِ؛ أَمدحُ عملَها مساءً! هذا نفاقٌ ووَجْهَنةٌ، وتطبيلٌ وتزميرٌ …. الخ!! من وجهةِ نظرِ من لا يُغيِّرون رأيَّهم.
يا عزيزي، أنا أغيِّرُ رأيي كلَّ يومٍ، وكلَّ ساعةٍ، وأعبّرُ عن ذلكَ بتناقضٍ حقيقٍ، وأحيانًا أوَضَّحُ..، ورأيي ليس مُطلَقًا، يعني لو انتقدتُ عملَكَ اليومَ؛ رُبما يُعجِبُني منكَ عملٌ آخَرُ غدًا؛ فأمدَحُه ببساطة؛ لأنني مؤمنةٌ بانتقادِ الفعلِ؛ وليس الشخصَ أو الجهةَ، الشخصُ لا أعرِفُه على الأغلبِ، والجهةُ ليس بيني وبينَها عداوةٌ !!
أقرأُ، ثُم أنتقدُ كثيرًا من الأعمالِ والكتبِ التي لا تُعجِبُني، و أمدحُ أعمالاً أخرى لنفسِ الكاتبِ؛ لأنها أعجبتْني، فالعملُ الأدَبيُّ متنوّعٌ، وكذلكَ العملُ الصحافي، والمؤسساتي، وحتى السياسي، وكُلُّنا نتطورُ، ونتغيَّرُ؛ لذلك احكُمُ على أفعالِ الناسِ؛ ثُم غيِّرْ رأيَّكَ إذا لَزِمَ الأمرُ… وذلكَ ليس عيبًا، فهناكَ مقولةٌ لفيلسوفٍ يسمَّى “باريتون”، يقول فيها:” دلائلُ الغباءِ ثلاثةٌ : العنادُ ، الغرورُ ، والتشبثُ بالرأيِ.