حرّكوا الخيرَ في نفوسِ الناسِ!
وضعتُ ذاتَ مرّةٍ مِلعقتَينِ اثنتَينِ من السكرِ في كوبٍ من الشايِ لأحدِ أصدقائي؛ ثُمَّ قدّمتُه لهُ بعدَ ترحيبٍ رقيقٍ وشوقٍ عميقٍ، رشفَ صديقي من الكوبِ رشفةً؛ فأرجعَ رأسَه إلى الخلفِ؛ وقضبَ حاجبَيهِ؛ كأنَّ الشايَ كان طعمُه مُرًّا، ويبدو أنني نسيتُ وقتَها أنْ أُقلّبَه وأذوِّبَه، وحسبَ موقفي في هذه اللحظةِ؛ فإنَّ مرارةَ الشايِ لا تعني أنه لا يحتوي على السّكرِ؛ لكنَّني سَهوتُ عن تقليبِه، وإنني لو بدأتُ بمُجرَدِ تحريكِه؛ فإنَّ حلاوتَه ستَظهرُ تلقائيًّا؛ وسيكونُ مقبولاً، أيْ أنَّ السُّكرَ موجودٌ؛ ولكنّه بحاجةٍ إلى مَن يُحرِّكُه.
وعلى غرارِ ذلكَ؛ هناكَ الملايينُ من النفوسِ البشريةِ، مزروعٌ فيها الخيرُ من رأسِها إلى أخمُصِ قدمَيها؛ ولكنهم بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى من يُحرِّكُ هذا الخيرَ في نفوسِهم؛ لِينعَكِسَ على طِباعِهم وسلوكِهم في مجتمعاتِهم، بما في ذلكَ جزءٌ من الأشرارِ_ نفسُ الشيءِ_ موجودٌ في نفوسِهم خيرٌ كثيرٌ؛ ولكنَّ عدمَ تحريكِه في نفوسِهم جعلَ منهم هذه الشخصياتِ المُنفِّرةَ التي تشمَئزُّ النفسُ من سماعِ سيرتِها السيئةِ.
ولِيُسامِحَني المُنظّرونَ، والدعاةُ، والقادةُ، والمُدراءُ/ والمسئولونَ، والصحفيونَ، والإعلاميونَ، والكُتّابُ، والأصدقاءُ، وأربابُ الأُسَرِ، ومن هم على شاكلتِهم؛ سامحوني لأنَّ المهمةَ الأساسيةَ من وراءِ هذا التغييرِ المنشودِ تنعقِدُ عليكم جميعًا، فليس المطلوبُ مِنّا الانفصالَ عن الواقعِ، والابتعادَ عن الناسِ واعتزالَهم؛ بل إنَّ المطلوبَ منّا أنْ نكونَ جميعًا أياديَ بيضاءَ فاعلةً في التغييرِ نحوَ الأفضلِ، كلٌّ في مَوقعِه، ومكانتِه، ومسئولياتِه المُتشعِّبة.
ستَكتشِفونَ ما أقولُه عمليًّا؛ حينَما تَنجحونَ ولو مرّةً واحدةً في تحريكِ الخيرِ في إنسانٍ ما، ستَرَونَ منه العجبَ العجابَ من عطائهِ، وأخلاقِه، وانعكاسِ ذلكَ على حياتِه وبيئتِه التي يعيشُ فيها، وكُلُّنا سمِعنا كثيرًا بشخصياتٍ كبيرةٍ ومُستشرِقينَ وكفَرةً وفَجَرةً؛ انقلبتْ أحوالُهم عندما تحرّكتْ مَكامِنُ الخيرِ في نفوسِهم؛ من موقفٍ، أو موعظةٍ، أو خطابٍ، أو قرارٍ، أو مقالٍ، أو تقريرٍ، أو مواقفَ اجتماعيةٍ، وغيرٍ ذلكَ.
هذا العالمُ الواسعُ؛ غادرَهُ ملايينُ الناسِ، ماتوا وفي قلوبِهم ونفوسِهم خيرٌ وفيرٌ؛ ولكنَّ ذاكَ الخيرِ كان عبارةً عن منجمٍ كبيرٍ؛ لم يَجرِ التنقيبُ عنه، ولم يتِمِّ اكتشافُه للأسفِ الشديدِ، ماتَ هؤلاءِ دونَ أنْ يُحرِّكَ خيرَهم أحدٌ من الناسِ؛ لكنَّ العِبرةَ ليستْ هنا؛ بلْ إنَّ العبرةَ في اتخاذِ القرارِ للبدءِ بعمليةِ التغييرِ؛ من خلالِ تحريكِ هذا الخيرِ في نفوسِ الناسِ من حولِكم وحولِنا جميعًا.
سأضربُ لكم مثلاً لِقامةٍ خلَّدها التاريخُ، هذه القامةُ هي الصحابيُّ الجليلُ “عمرُ بنُ الخطابِ”، الذي أصبحَ من العشَرةِ المبشَّرينَ بالجنةِ، هل تذكرونَ كيف كان “عُمرُ” قبلَ إسلامِه؟ لقد وصلَ به الحالُ إلى الخروجِ لقتلِ النبيِّ _صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ_، وكان وقتذاكَ من أشدِّ أعداءِ الإسلامِ، فقد كان عدوًّا للإسلامِ وللمسلمينَ، وامتازَ بالقوةِ والبأسِ الشديدِ، وفي الوقتِ ذاتِه كان النبيُّ يدعو اللهَ أنْ يُعِزَّ الإسلامَ بأحدِ العُمرَينِ؛ وهو واحدٌ منهما.
هل تذكرونَ ماذا فعلَ عندما علِمَ بإسلامِ أختِه وزوجِها؟ عندما اقتحمَ بيتَهم؛ وضربَ أختَه بصفعةٍ قاسيةٍ على وجهِها حتى أدْماها؛ لكنّه بعدَ ذلكَ رقَّ قلبُه؛ وطلبَ قراءةَ الصحيفةِ التي كانوا يقرؤونَ فيها، فأجابتْهُ أختُه “أنَّ هذا القرآنَ الكريمَ طاهرٌ؛ ولا يَمسُّه إلا المتطَهِرونَ، ولا يجوزُ له قراءتُه إلّا إذا توَضَّأ، فأرشدَتْهُ لطريقةِ التطَهُرِ، وبدأَ بقراءةِ القرآنِ من الصحيفةِ، وقال: ما أعجبَ هذا الكلامَ؛ ثُم سألَ عن النبيِّ _صلى الله عليه وسلم_ ليَقصِدَه؛ فأجابَه خبّابُ بنُ الأَرَّتِ هذا الطلبَ، وقالَ له: أرجو أنْ تكونَ أنتَ المقصودَ بدعوةِ الرسولِ يا عمرُ ليلةَ الخميسِ، فقال عمرُ: وماذا دعا؟ فقال الخبّابُ: “اللَّهمَّ أعِزَّ الإسلامَ بعُمرَ بنِ الخطَّابِ أو بأبي جهلِ بنِ هشامٍ”، ثم أسلمَ عُمر إسلامًا رفعَ اللُه بهِ الإسلامَ وأعزَّ المسلمينَ.
كان النبيُّ رمزًا واضحًا للتغيُّرِ وتحريكِ الخيرِ في نفوسِ الناسِ؛ حتى استمرَّ أثَرُه _صلّى اللهُ عليه وسلّمَ_ حتى يومِنا هذا، وإلى يومِ الدِّينِ. فاستقيموا يَرحَمْكُمُ اللهُ.