حارةُ “الياسمينةِ” تفوحُ بتاريخٍ حافلٍ بالشهداءِ وأبطالِ المقاومةِ.
حارةُ "الياسمينةِ" تفوحُ ببطولاتِ الشهداءِ والمطارَدينَ.

السعادة
عُرفَ عن حارةِ “الياسمينةِ) أنها تفوحُ بجمالِها ورائحتِها العطرةِ؛ فالداخلُ لها يشتمُّ رائحةَ الياسمينِ، الآنَ الرائحةُ الفواحةُ المنتشرةُ؛ رائحةُ الأبطالِ والمقاومينَ الأُسودِ أصبحتْ مسقطَ رأسِ عرينِ الأسودِ، فحينَ الحديثِ عن عظَمةِ تلكَ الحارةِ؛ فهي ترتبطُ بشبابٍ اجتمعوا على حُبِّ الوطنِ؛ وأخذوا عهدًا على أنفُسِهم لتحريرِ كلِ شِبرٍ، والثأرِ لِرفاقِهم؛ فانتفضتْ الحارةُ وسكانُها وأشجارُها حزنًا؛ عندما رَوّتْ دماءُ الشهداءِ أشجارَ الياسمينِ؛ دماءُ قائدِ عرينِ الأُسودِ “وديع اللوح” وبعضٍ من رفاقِه الأُسودِ، ومن قبلِه رفيقُه الشهيدُ “تامر الكيلاني”، والحكايةُ لم تنتَهِ بعدُ في حاراتِ نابلس العتيقةِ.
حين يتكلّمونَ في نابلس عن «عرينِ الأُسودِ»؛ فهُم لا يتكلمونَ فقط عن مجموعةٍ من شُبّانِ حاراتِ المدينةِ العتيقةِ، الذين أشعلوا النارَ في جبلِ النارِ؛ بل يتكلمونَ عن تاريخِ ونضالِ وعراقةِ وأصالةِ المكانِ .
حارةُ الأبطالِ
لعبَ حيُّ الياسمينةِ دورًا كبيرًا في الانتفاضةِ الأولى عامَ (1987)، واجتياحِ الاحتلالِ الإسرائيليّ للمدينةِ عامَ (2002)؛ حيثُ تعرّضَ لعملياتِ هدمٍ طالتْ مَصابنَ، ومَحالَّ، ومنازلَ، وجرى هدمُ مدخلِ الحيِّ بالمتفجراتِ عندَ اقتحامِه في بداياتِ الانتفاضةِ الثانيةِ.
ويعاني الحيُّ حاليًّا من هجرانِ غالبيةِ المنشآتِ التجاريةِ في شوارعِه الضيقةِ؛ نحوَ التجمعاتِ التجاريةِ الكبيرةِ، وأسواقِ الأحياءِ الراقيةِ، إلى جانبِ انتقالِ أعدادٍ كبيرةٍ من شُبانِه للسكنِ خارجَه، واقتصارِ الإقامةِ فيه على كبارِ السنِّ.
داخلَ أحدِ المنازلِ المتراصّةِ في أزِقَّتِها الضيقةِ؛ احتضنتْ حارةُ الياسمينةِ في البلدةِ القديمةِ بنابلس سبعةَ مقاومينَ؛ كانوا هدفًا للاحتلالِ الإسرائيلي، بعمليةٍ عسكريةٍ هي الأوسعُ منذُ سنواتٍ طويلةٍ؛ لتُشكّلَ لهم ولغيرِهم من “المطلوبينَ” للاحتلالِ حِصنًا منيعًا وحِضنًا دافئًا، في ظِلِّ ملاحقتِهم المستمرةِ.
وعلى وقعِ دَويِّ التفجيراتِ وزخّاتِ الرصاصِ؛ عاشت حارةُ الياسمينةِ أمسَ الأحدَ ساعاتٍ عصيبةً؛ أعادت للأذهانِ أحداثًا مشابِهةً تكرّرتْ مِرارًا على مدارِ سنواتِ النضالِ الفلسطينيّ.
تاريخٌ نضاليٌّ عاش تفاصيلَه أهلُ حارةِ الياسَمينةِ، لياليَ طويلةً صعبةً قَضوها في اشتباكاتِ المقاومينَ معَ جنودِ الاحتلالِ الإسرائيلي، فيقولُ “أبو علي الخان” من سكانِ الحارةِ :”مضَى علينا ليالٍ لم يغمضْ لي جفنٌ طوالَ فترةِ الاشتباكاتِ؛ خوفًا من أنْ يصيبَ مكروهٌ أفرادَ عائلتي المكوّنةِ من ستةِ أفرادِ في منزلِهم المجاورِ للمنزلِ المستهدَفِ..
ففي إحدى الليالي صحَونا الساعةَ الواحدةَ والنصفَ فجرًا على أصواتِ النيرانِ الكثيفةِ والاشتباكاتِ العنيفةِ، الرصاصُ أصابَ بابَ بيتي وبيوتِ الجيرانِ؛ ثُم علَتْ أصواتُ القنابلِ الصوتيةِ”.
ولادةُ أبطالٍ
ويُبيِّنُ: إنّ جنودَ الاحتلال بدأوا بتوجيهِ نداءاتٍ عبرَ مكبّراتِ الصوتِ إلى المتواجدينَ في المنزلِ المستهدَفِ؛ طالبينَ منهم تسليمَ أنفُسِهم؛ وبعدَ ثلاثِ محاولاتٍ بدأتْ أصواتُ إطلاقِ الصواريخِ والقذائف ..
يقولُ :”من شِدّةِ صوتِ إطلاقِ النارِ؛ لم نَجرُؤْ على فتحِ البابِ، أو اختلاسِ النظرِ من النوافذِ؛ خشيةَ التعرّضِ لنيرانِ الجنودِ القنّاصةِ، عِشنا لحظاتٍ صعبةً لم يمرُّ علينا مِثلُها؛ حتى في اجتياحِ نيسان/أبريل (2002)؛ بل كانت أعنفَ وأصعبَ”.
فيما تحدّثَ الحاج أبو يوسف الربعي قائلاً :” هذهِ الحارةُ شهِدتْ وِلادةَ أبطالٍ ومقاوِمينَ مدافعينَ عن حارتِهم ومدينتِهم؛ كانوا فيها خيرَ الأبطالِ الذي لقّنوا العدوَّ درسًا في الجهادِ والدفاعِ عن الوطنِ والمقدّساتِ، فالأرضُ غاليةٌ، وهذا ما سَعَينا على زرعِه في نفوسِ أبنائنا منذُ أنْ كانوا أطفالًا.
في حين، تَحدّثَ الشابُّ “خالد” :”نحن أبناءُ تلكَ الحارةِ العريقةِ؛ تَربَّينا على حبِّ الأرضِ والوطنِ؛ ولن نرضَى أنْ نرَى الأقصى يُستباحُ، والمرأةَ الفلسطينيةَ المرابطةَ الصابرةَ تُضرَبُ وتُحاصَرُ؛ ونقفُ مكتوفي الأيدي.. نحن نستلِمُ الرايةَ، ومن يستشهدْ يُسلِّمْها لغيرِه، وتبقى مسيرةُ المقاومةِ مستمرةً ومتواصلةً؛ حتى يأتيَ اليومُ الذي نرفعُ فيه أعلامَ النصرِ على كلِّ مئذنِةٍ من مآذِنِ الوطنِ “.
عندَ أحدِ مداخلِ حارةِ الياسمينةِ؛ أُقيمَ نُصبٌ تذكاريٌّ يضمُ أسماءَ (16) شهيدًا من أبنائها؛ قضَوا منذُ الانتفاضةِ الأولى، وحتى عامِ (2004)،وشهِدتْ “الياسمينة” أحداثًا لافتةً في تاريخِ النضالِ الفلسطيني، وبرزتْ كحاضنةٍ دافئةٍ للمقاوِمينَ الفلسطينيينَ بعدَ هزيمةِ حزيرانَ، واحتلالِ الضفةِ الغربيةِ عامَ (1967) .
حارةُ الياسمينةِ هي إحدى ستِ حاراتٍ رئيسةٍ؛ تتكونُ منها البلدةُ القديمةِ؛ ومن أكبرِها مساحةً، وتقعُ في الجهةِ الجنوبيةِ الغربيةِ من البلدةِ القديمةِ، وتمتدُّ مبانيها القديمةُ إلى أطرافِ جبلِ الطورِ، أو جبلِ البَرَكةِ .
أحداثٌ وطنيةٌ
الحاج “أبو أدهم الحجري”، أحدُ سكانِ الحارةِ، يقولُ :”إنها كانت من أوائلِ الحاراتِ مشارَكةً في الانتفاضةِ الأولى، وكان لها حضورٌ بارزٌ فيها، بسببِ التحامِها بحيِّ رأسِ العينِ المُطِلِّ عليها، إذ شكّلَ نشطاءُ الانتفاضةِ فيهما مصدرَ تهديدٍ يوميٍّ لدورياتِ الاحتلالِ خلالَ تحرُّكاتِها، كما أنّ الطبيعةَ المعماريةَ لهذهِ الحارةِ؛ ووجودَ ممراتٍ مُتشَعِّبةٍ ضيقةٍ للغايةِ؛ جعلَ منها عائقًا أمامَ اقتحاماتِ الاحتلالِ.
وارتبطَ اسمُ حارةِ الياسمينةِ بعمليةِ “الساقوف” الشهيرةِ؛ التي نفّذَها الأسيرانِ المحرَّرانِ “إبراهيم الطقطوق، وسمير النعنيش” بمنطقةِ بوابةِ البيك عامَ (1988)، وذلكَ بإلقاءِ حجرٍ كبيرٍ على قوةٍ راجلةٍ من جنودِ الاحتلالِ؛ أسفرتْ عن مقتلِ أحدِ الجنودِ.
ويقولُ :”إنّ الأحداثَ الأخيرةَ تُشبِهُ إلى حدٍّ كبيرٍ أحداثًا وقعتْ في حارةِ الياسمينةِ قبلَ ( 28) عامًا؛ ففي تموز/ يوليو (1994) حاصرتْ قواتُ الاحتلالِ منزلاً؛ كان يتحَصَّنُ بداخلِه قائدُ كتائبِ القسامِ المهندسُ “يحيى عياش” واثنانِ من مساعِديهِ، هما “بشّار العامودي، وعلي عاصي” اللذان غطَّيا على انسحابِه؛ وارتقيا شهيدَينِ جرّاءَ قصفِ المنزلِ بالصواريخِ.
وخلالَ اجتياحِ نابلس عامَ (2002)؛ نالت حارةُ الياسمينةِ نصيبًا وافِرًا من الدمارِ، وقدّمتْ عددًا من الشهداءِ؛ أبرزُهم القيادي بكتائبِ شهداءِ الأقصى “مؤيَد الجميّل”.
ويصِفُ لنا الحاجُّ أبو أدهم قائلاً :”إنّ شجرةَ الياسَمينِ كانت تُزرعُ في البيوتِ قديمًا، ويمكِنُكَ أنْ تشُمَّ رائحةَ الياسمينِ بمُجرَّدِ دخولِكَ إلى الحارةِ؛ ولهذا السببِ أُطلقَ عليها هذا اللقبُ”.
ويبيِّنُ إلى أنّ بناءَ الأقواسِ والقناطرِ القديمةِ الموجودةِ في البلدةِ، مع الأسواقِ المغلَقةِ، وأماكنِ الصلاةِ الشبيهةِ بجوامعِ دمشقَ؛ جعلتْ البعضَ يُطلِقُ على الحارةِ أيضًا “دمشقُ الصغرى”.
عُرِفَ عن شبابِ الياسمينةِ شدّةُ البأسِ والقوةِ، وكانوا دائمًا وعلى مرِّ تاريخِ الصراعِ في الطليعةِ، وقدّمتْ حارةُ الياسمينةِ العشراتِ؛ بلِ المِئاتِ من خيرةِ أبنائِها للدفاعِ عن ثرَى الوطنِ.
طابعٌ دمشقيٌّ
يشعرُ الزائرُ إلى حارةِ الياسمينةِ؛ بأنه يتجولُ في أحدِ الأحياءِ الشاميّةِ العريقةِ؛ حيثُ تُشابِهُ حارةُ الياسمينةِ _بأبنيتِها، وأزِقَّتِها، ودكاكينِها القديمةِ، ومحالِّها، ونمطِ العمارةِ فيها_ الحاراتِ الشاميةَ في سوريا، حيثُ تنتشرُ في الحيِّ أشجارُ الياسمينِ في الأزِقّةِ والشوارعِ والبيوتِ التي يعودُ عمرُها لآلافِ السنينَ، وتشتهرُ حارةُ الياسمينةِ _كما الحاراتِ السوريةِ في دمشقَ_ بصُنعِها الكعكَ الشامي، وتنتشرُ فيها محالُّ البُذورِ والعطارةِ، وتحتوي على أهمِّ المعالمِ العثمانيةِ في المدينةِ، وفي مقدِّمتِها “الحمّامُ التركيُّ”؛ ما يجعلُها مقصدًا للسياحِ والتجارِ .
وترَسَّخَ مع الزمنِ وَصْفُ المؤرِّخينَ القدماءِ لمدينةِ نابلس؛ بأنها الشامُ الصغيرةُ، فالبناءُ المعماري المتميّزُ بانفتاحِ مَرافقِه على بعضِها، وإطلالةِ مكوّناتِه على فضاءٍ واحدٍ من البيوتِ القديمةِ المتراصّةِ، والتشكيلاتُ الفنيةُ والجماليةُ، ودكاكينُ العطارةِ؛ يمنحُ الحارةَ وساكنيها شعورٌ بالألفةِ والتقاربِ تمامًا مِثلَ الحاراتِ الشاميّةِ.
حارةُ الياسمينةِ الأكثرُ شهرةً بينَ أحياءِ نابلس؛ وكثيرًا ما توصَفُ بأنها دم
شقُ أو الشامُ الصغرى؛ تتميزُ أحياءُ البلدةِ القديمةِ في مدينةِ نابلس بطابَعِها المعماري الخاصِّ والموروثِ من الحضاراتِ القديمةِ التي تعاقبتْ على المدينةِ، ويحتلُّ حيُّ الياسمينةِ الزاويةَ الجنوبيةَ الغربيةَ من المدينةِ القديمةِ، وسُمّيَ الياسمينةُ بهذا الاسمِ لكثرةِ الياسمينِ فيه. فلِكُلِّ مدينةٍ روحُها التي تصنعُ نبضاتِ حياتِها، وأرواحُ المدنِ مليئةٌ بالأغصانِ.
كلُّ مدنِ فلسطينَ، ومخيماتِها وقراها تمدُّ أغصانَها لتحتضنَ الغصنَ الذي سقطَ في نابلس؛ مِثلَما احتضنتْ الأغصانَ التي سقطتْ في القدسِ وجنينَ.
يحتوي الحيُّ على الكثيرِ من الفنِّ المعماري القديمِ، المتمثلِ في بيوتٍ أُنشئتْ قبلَ مئاتِ السنين، ويقعُ وسطَ حارةِ الياسمينةِ فوقَ جامعِ الساطون، وعلى أمتارٍ قليلةٍ حتى يبرزَ ديوانُ الياسمينةِ، الذي تحوّلَ إلى ملاذٍ لكُلِّ العائلاتِ في المناسباتِ الاجتماعيةِ “الأفراحِ والأتراحِ”، أو استقبالِ العزاءِ بالشهداءِ، وإقامةِ الأنشطةِ الاجتماعيةِ والثقافية.
من الأماكنِ التراثيةِ جامعُ الساطونَ، وجامعُ الخضراءِ، وتشتهرُ نابلس بـ”الأحواش”، فهي تميّزتْ عن غيرِها من المدنِ الفلسطينيةِ، وما يشيرُ إلى ذلكَ، ما ذَكرَه الجغرافي المَقدسي في القرنِ الرابعِ الهجري.
ومن بينِ معالمِ الحارةِ، يقفُ “حمّام السمرة الهنا”؛ وهو من الحمّاماتِ التركيةِ المشهورةِ في مدينةِ نابلس خاصةً، وفلسطينَ عامّةً، وأكثرِها جمالاً وتميُّزًا، ويعودُ تاريخُه إلى ما قبلَ (215) عامًا، ويعدُّ من أشهرِ الحمّاماتِ في نابلس وأجملِها، وقد أنشأهُ السامريونَ الذين يقطنونَ في جبلِ جِرزيم (أحدِ جبلَي المدينةِ) ويقعُ في البلدةِ القديمةِ، وبالتحديدِ في حارةِ الياسمينةِ.
ويعدُّ مسجدُ الساطونِ من أقدمِ المساجدِ في مدينةِ نابلس، ويتوسّطُ حارةَ الياسمينةِ، وله ذكرياتٌ مؤلمةٌ إبانَ احتلالِ المدينةِ عامَ (1967)، واجتياحِ المدينةِ عامَ (2002).
وتُعَدُّ الياسمينةُ القِبلةَ الأولى للوفودِ السياحيةِ الأجنبيةِ، التي تصِلُ للتعرّفِ على خفاياها، وعلى معالمِها التاريخيةِ، ووِجهةً للمصوّرينَ الهُواةِ لالتقاطِ صوَرٍ تراثيةٍ جميلةٍ.