الفلسطينياتُ يدفعْنَ عَجلةَ الاقتصادِ رغمَ التحدياتِ
التسويقُ وعدمُ التمويلِ أهمُّ مشاكلِ النساءِ في سوقِ العملِ

تحقيق :ديانا المغربي
في كفِّها اللَّينُ الهَيِّنُ تقبضُ النساءُ الفلسطينياتُ على أمالِهنَّ في تحسينِ فُرصِ حياتِهنَّ؛ لاسيَّما إنْ كُنَّ في عائلاتٍ لا يُشكّلُ لهنَّ فيها الرجلُ مصدرَ دخلٍ أو سنَدٍ؛ يُمكِنُ أنْ يُعتمَدَ عليه؛ فيما تَرفعُ أُخرياتٌ أكُفَّهُنَّ عن خدودِهنَ في رحلةِ الانتظارِ الطويلةِ في طوابيرِ البطالةِ؛ باحثاتٍ عن فُرصِ عملِ يُمارسْنها في محاولةٍ للاستمرارِ في دفعِ عجلةِ الحياةِ في فلسطينَ؛ لِيكُنَّ جزءًا من أفقٍ واعدٍ في سوقِ العملِ رغمَ التحدّياتِ .
إذْ قطعتْ المرأةُ الفلسطينيةُ في السنواتِ الماضيةِ خطواتٍ جبارةً في مختلفِ المجالاتِ التنمويةِ في البلادِ، وساهمتْ بشكلٍ فعّالٍ في تعزيزِ النموِّ الاقتصادي، وصمودِ عائلاتِهنَّ؛ وذلكَ باعتبارِها أساسَ المجتمعِ، وشريكةً في التنميةِ والتطورِ، متغاضيةً عن الرضوخِ تحتَ الاحتلالِ الإسرائيلي، وتبعاتِه السياسيةِ والاقتصاديةِ؛ الذي يحدُّ من تطوُّرِ اقتصادِها؛ خاصةً المتعلّقَ بالتجارةِ الخارجيةِ والمُناخِ الاستثماري، ويمنعُ الاستفادةَ من الأراضي الحدوديةِ، أوِ المُصنَّفةِ “ج” في أراضي الضفةِ الغربيةِ.
رسالةٌ مستمرّةٌ
في ساعاتِ الصباحِ الباكرِ؛ تُشَغَّلُ سعاد الطويل “45 عامًا” فُرناً ضخمًا تَلَقَّتْهُ من أحدِ المؤسساتِ الداعمةِ للمشاريعِ النسائيةِ؛ لتخبزَ آلافًا من قِطعِ المُعجّناتِ والمخبوزاتِ التي صنعتْها في ساعاتِ بَعدَ مُنتَصفِ الليلِ؛ لتصلَ إلى زبائنِها ساخنةً على وجباتِ فطورِهم اليوميةِ.
تقولُ لـ “السعادة”:” تزوَّجتُ في عائلةٍ مستورةٍ؛ على أملِ تَحسُّنِ الأحوالِ؛ لكنّ العمرَ مضَى دونَ أنْ تتحسّنَ.. وكَبِرَ الأبناءُ في “عَوزٍ وفقرٍ”؛ حتى قرَّرتُ أنْ أطرقَ بابَ العملِ بدايةً لتحسينِ وضْعِ عائلتي، والرفعِ من شأنِها بينَ العوائلِ الأخرى؛ ومع الوقتِ أدركتُ أني أساهمُ في رِفعةِ المجتمعِ، وأنَّ طرقيَ لبابِ العملِ هو دَوري الأساسُ في التنميةِ المجتمعيةِ؛ خاصةً أني حرصتُ أنْ أقدِّمَ للمجتمعِ أبناءً صالحينَ متعلّمينَ ينتفعُ بِهم.
توزّعُ “سعاد” في كلِّ صباحٍ ما يقاربُ خمسةَ آلافِ قطعةٍ من المُعجّناتِ والمخبوزاتِ على مراكزِ التسوّقِ والسوبرماركت في مدينةِ غزة، حيثُ يشاركُها بالتوزيعِ ابنُها البِكر “محمد”؛ الذي وجدَ أنّ حياتَهم اختلفتْ بعملِ أمِّه؛ بل أصبحَ هذا العملُ يُعيلُ عائلتَه الأساسيةَ، ومن ثَمَّ يعيلُ عائلتَه الصغيرةَ.
وتَروي “سعاد” كيف أصبحتْ مُشغّلةً لبعضِ النساءِ؛ بعدَما كانت تمرُّ عليها الشهورُ دونَ أنْ يضعَ أحدُهم في يدِها شيكلًا واحدًا؛ منوّهةً أنها تختارُ النساءَ المعوّزاتِ للعملِ معها في مشروعِها؛ لأنها تشعرُ أنّ رسالةَ هؤلاءِ النساءِ رسالةٌ مستمرّةٌ؛ تبني المجتمعَ، وتعمِّقُ أواصِرَه.
تمكينُ المرأةِ، وتحسينُ مركزِها المجتمعي أمرٌ أساسٌ لا بدَّ منه؛ لتحقيقِ مستوى أفضلَ نحوَ السيرِ في التنميةِ الاقتصاديةِ والسياسيةِ والاجتماعيةِ اللازمةِ؛ لِذا خاضتْ المرأةُ الفلسطينيةُ مِضمارًا جديدًا نحوَ سوقِ العملِ وريادةِ الأعمالِ الاقتصاديةِ؛ وإنْ كان بِخُطىً خجولةٍ ؛أو مشاريعَ تشغيليةٍ لا ترتقي إلى صفةِ الاستثمارِ.
الشابةُ شيماء أبو عيسى تقولُ لـ” السعادة “:” تخرّجتُ منذُ سنواتٍ طويلةٍ؛ وجلستُ في طوابيرِ البطالةِ كغيري من أهالي غزةَ؛ حتى قرَّرتُ أنْ أترُكَ أحلامي في الحصولِ على وظيفةٍ مرقومةٍ؛ كالتي كنتُ أحلمُ بها أثناءَ دراستي لتَخصُّصِ التجارةِ باللغةِ الإنجليزيةِ؛ حيثُ كنتُ أطمعُ للعملِ في أحدِ البنوكِ، أوِ الشركاتِ الماليةِ.
واقعٌ متواضعٌ
مع سوءِ الأوضاعِ الاقتصاديةِ؛ اتَّجهتُ للعملِ في سوقِ التجارةِ الإلكترونيةِ؛ في البدايةِ كانت الأمورُ صعبةً للغايةً، وغيرَ مُجديةٍ خاصةً للنساءِ؛ إلَّا أنّ تطوّرَ العملِ، واتّساعَ رقعتِه؛ أصبحَ يعطي للجميعِ حيِّزًا متساويًا؛ حتى وصلتُ درجةَ الاحترافيةِ؛ ومنها قرَّرتُ أنْ أكونَ أنموذجًا لنساءٍ أخرياتٍ؛ فاتَّجهتُ إلى مجالِ التعليمِ والتدريبِ فيما يتعلقُ بهذه التجارةِ؛ لاسيّما وأنها من المُمكِنِ أنْ تُحقِّقَ دخلاً شِبهَ ثابتٍ للكثيرِ من الفتياتِ اللواتي يتمتّعنَ بقدراتٍ لُغويةٍ وبرمجيةٍ جيدةٍ.
حسبَ إحصاءاتِ الجهازِ المركزي للإحصاءِ الفلسطيني للعامِ (2021)، بلغَ معدّلُ البطالةِ للإناثِ (43%)، مُقابلَ (22%) للذكورِ في فلسطينَ، وبلغَ عددُ العاملاتِ فوقَ (15)سنةً (157,152) عاملةً؛ منهنّ (52,208) يعملنَ في القطاعِ العام، و(103,264) يعملنَ في القطاعِ الخاص، فيما هناك (3,309) سيداتٍ من صاحباتِ الأعمالِ والمشغّلينَ بما يعادلُ (2.1%)، و(18,250) امرأةً من صاحباتِ المشاريعِ التي تعملُ وحدَها؛ بما يعادلُ (11.6%) من العاملاتِ في الأنشطةِ الاقتصاديةِ، في حين بلغَ معدّلُ البطالةِ (53%) بينَ الشبابِ من (19-29 سنة) من حمَلةِ شهادةِ الدبلومِ المتوسطِ فأعلَى، بواقعِ (66%) للإناثِ، مقابلَ (39%) للذكورِ.
من جانبِه، يصِفُ “رشاد يوسف” المُختصُّ برسمِ السياساتِ الماليةِ والاقتصاديةِ، واقعَ المرأةِ في سوقِ العملِ “بالمتواضع”؛ رغمَ أنه يشهدُ تطوّرًا، وأنّ النساءَ بِتنَ يعملنَ في قطاعاتٍ مُهمّةٍ، وأنّ هناكَ آفاقًا جديدةً لمساهمةِ المرأةِ بشكلٍ أكبرَ في سوقِ العملِ والاقتصادِ المَحلِّي.
ويضيفُ:” هناكَ نحوَ (7) من كلِّ (10) ذكورٍ مشاركينَ في القوى العاملةِ، مقابلَ نحوِ (2) من كلِّ (10) إناثٍ، وبلغتْ نسبةُ مشاركةِ الإناثِ في القوى العاملةِ (17%)؛ مقابلَ (69%) للذكورِ، ويرجعُ ذلك إلى عزوفِ المرأةِ عن الخروجِ إلى سوقِ العملِ؛ بسببِ الزواجِ أوِ المسؤولياتِ العائليةِ، أوِ العاداتِ والتقاليدِ في بعضِ المناطقِ.
ويتابعُ: رغمَ ذلكَ، فإنَّ (14.4%) من الإناثِ العاملاتِ هُنّ ربّاتُ عملٍ، أو يعملنَ لحسابِهنّ الخاص، في حين أنّ ( 21.5%) من الذكورِ العاملينَ هم أربابُ عملٍ، أو يعملونَ لحسابهِم الخاص، مشيرًا إلى أنّ نسبةَ الإناثِ تُعَدُّ الأعلَى منذُ سنواتٍ، والتي كانت لا تصلُ إلى (8%)، فيما أنّ غالبيةَ المشاريعِ التي تديرُها نساءٌ؛ هي متوسطةٌ وصغيرةٌ، مشيرًا إلى أنّ عامَ (2021) شهِدَ تراجُعًا في معدّلِ البطالةِ بينَ الإناثِ، مقارنةً بعامِ (2020)، مُرجِعًا السببَ للعواملِ الاجتماعيةِ التي تدفعُ الطالباتِ إلى دراسةِ تخصُّصاتٍ جامعيةٍ محدّدةٍ، خاصةً المتعلقةَ بقطاعِ التعليمِ، والتي لا تُخوِّلُهُنَّ الدخولَ إلى سوقِ العملِ، داعيًا إلى ضرورةِ المواءمةِ بينَ التخصصاتِ الجامعيةِ، وحاجةِ سوقِ العملِ، والتركيزِ على التخصُّصاتِ المِهنيةِ والتقنيةِ .
حاضنةٌ وتحفيزٌ
ويوضّحُ “يوسف” أنّ قطاعَ الخدماتِ؛ هو القطاعُ الاقتصادي الأكبرُ الذي يتركزُ فيه عملُ الإناثِ بنسبةِ (83.6%)، وأن هناكَ توَجُّهًا كبيرًا للإناثِ للعملِ في القطاعاتِ الواعدةِ؛ مِثلَ قطاعِ تكنولوجيا المعلوماتِ، والتسويقِ الإلكتروني، مُبيِّنًا أنّ نحوَ (2000 إلى 3500) صفحةِ تسويقٍ على مواقعِ التواصلِ الاجتماعي تديرُها سيداتٌ، وقطاعُ الصناعةِ يحتلُّ المركزَ الثاني بنسبةِ (9.6%)، أمّا الزراعةُ بنسبةِ (6.6%)، وتتغيّبُ المرأةُ عن قطاعِ الإنشاءِ؛ إذْ تعملُ بنسبةِ ( 02.%)، ويقتصرُ وجودُهنَّ على الوظائفِ الفنيةِ، أمّا قطاعا النقلِ والمواصلاتِ، والعملِ في المحاجرِ؛ فيُعدَّانِ حِكرًا على الرجالِ.
ويؤكدُ أنّ البيئةَ التشريعيةَ تضمنُ مساواةً كاملةً بينَ الإناثِ والذكورِ؛ سواءً في قانونِ العملِ، أو قانونِ الخدمةِ المَدنيةِ في الحقوقِ الاقتصاديةِ؛ كأجورٍ أو سجلٍ تجاريٍّ وغيرِها، بينما تكمنُ الإشكاليةُ في التطبيقِ في القطاعِ الخاصِّ؛ لافتًا إلى أنّ القطاعَ المصرفي، وقطاعَ الاتصالاتِ؛ لا يوجدُ فيها فروقٌ في الرواتبِ بينَ الإناثِ والذكورِ، أمّا في المنشآتِ الصغيرةِ، وقطاعاتٍ مِثلَ السكرتاريةِ، ورياضِ الأطفالِ، والملابسِ والخياطةِ؛ فتُعطَى العاملاتُ في الغالبيةِ أقلَّ من الحدِّ الأدنَى للأجورِ؛ والذي يقدَّرُ بـ(1880) شيقلاً، مشدِّدًا على ضرورةِ مراقبةِ الالتزامِ بالحدِّ الأدنَى من الأجورِ، والذي يحتاجُ إلى جهدٍ ميدانيٍّ، ووضعِ سياساتٍ أشدَّ، وعقوباتٍ على غيرِ الملتزمينَ.
من جانبِها تقولُ “فداء المدهون” _عضوُ مجلسٍ بلديٍّ_:” إنّ واقعَ النساءِ في سوقِ العملِ متطوّرٌ ومنظّمٌ، ويرتقى لأنْ يغيّرَ في الواقعِ الاقتصادي والتنموي للمجتمعِ؛ لكنّ هذا العملَ ما زال يحتاجُ إلى حاضنةٍ وتحفيزٍ؛ لتسريعِ تطوّرِه وتنظيمِه بطريقةٍ فائقةٍ وخادمةٍ ونوعيةٍ لواقعِ النساءِ في فلسطينَ .
وهناكَ توَجُّهٌ من الوزاراتِ المختصةِ والمانحينَ نحوَ النوعِ الاجتماعي والفئاتِ المهمشةِ، وهناك مجموعةُ تدخُلاتٍ عامةٍ؛ تعملُ عليها مؤسساتُ المجتمعِ المَدني؛ بالضغطِ، والجهاتُ المختصةُ بالتنفيذِ؛ تصبُّ في مصلحةِ النساءِ؛ منها: قانونُ الشركاتِ الجديدُ، الذي اعتُمدَ نهايةَ عامِ (2020)، ويعملُ على تحفيزِ الاستثمارِ، وسمحَ بشراكةِ الفردِ الواحدِ، وألغَى الحدَّ الأدنَى لرأسِ المالِ، والتسجيلَ من خلالِ محامٍ، وجاري العملُ على التسجيلِ الإلكتروني للشركاتِ، إضافةً إلى تصنيفِ وتعريفِ الشركاتِ الصغيرةِ والمتوسطةِ، والذي يُعطيها فرصةً للحصولِ على تمويلٍ، وتنظيمِ قطاعِ المشاريعِ العاملةِ من المنازلِ .
وبحسبِ التقريرِ الإحصائي السنوي لعام (2021) من واقعِ السجلاتِ الإداريةِ؛ الصادرِ عن الإدارةِ العامةِ للسياساتِ والعلاقاتِ الاقتصاديةِ “دائرةِ السياساتِ والإحصاءِ” في وزارةِ الاقتصادِ الوطني؛ فإنّ البیاناتِ من منظورِ النوعِ الاجتماعي أوردتْ أنّ عددَ الإناثِ المسجلاتِ في السجلِ التجاري؛ ارتفعَ بنسبةِ (119.1%) خلالَ عامِ (2021)؛ مقارنةً مع عامِ (2020)، حیثُ تمَّ تسجيلُ (252) أنثى؛ مقابلَ (115)، وشكلتْ الإناثُ ما نسبتُه (9.6%) من إجمالي عددِ المسجّلینَ في السجلِ التجاري .
واقعًا جديدًا
وبخصوصِ الأنشطةِ الاقتصاديةِ التي تنشطُ فیها الإناثُ صاحباتُ المشاريعِ، والمسجّلاتُ في السجلِ التجاري؛ یلاحظُ ترَكُّزُ الإناثِ في أنشطةِ صالوناتِ التجمیلِ، وبیعِ موادِ التجميلِ والإكسسواراتِ؛ وذلكَ بنسبةِ (8%)، وجاءت أنشطةُ الخياطةِ، وبیعِ الملابسِ بنسبةِ (6%)، وأنشطةُ المطاعمِ والمطابخِ والحلوياتِ بنسبةِ (6%)، وأنشطةُ تجارةِ الموادِ الغذائيةِ والتموينيةِ (البقالة، السوبر ماركت) بنسبةِ (5.2%.) .
وحولَ المعيقاتِ والتحدّياتِ التي تواجهُ النساءَ في سوقِ العملِ، تقولُ المدهون : إنّ أبرزَ المعيقاتِ تتمثلُ في التسويقِ والوصولِ إلى التمويلِ؛ لعدمِ توفّرِ ضماناتٍ للحصولِ على التمويلِ اللازمِ؛ ما يدفعُ غالبيةَ النساءِ للحصولِ على التمويلِ من خلالِ مؤسّساتِ الإقراضِ، والتي تمنحُ قروضًا بفائدةٍ عاليةٍ، كذلك عدمُ إطّلاعِ النساءِ على الخدماتِ التي تقدّمُها الغرفةُ التجاريةُ يشكّل مُعيقًا مُهِمًّا ، وحثّتْ “المدهون” النساءَ على أخذِ زمامِ المبادرةِ والاطّلاعِ على الفرصِ المتاحةِ، خاصةً وأنّ الآفاقَ الاقتصاديةَ اتّسعتْ مع ظهورِ فُرصِ المشاريعِ الرقميةِ والتسويقِ الإلكتروني، والتي من شأنِها أنْ تخلقَ واقعًا جديدًا للنساءِ .