
السعادة : خاص
للبيتِ ربٌّ يَحميهِ، وفي القدسِ مسجدٌ من أطهرِ مساجدِ الأرضِ؛ وهو المسجدُ الأقصى المباركُ، ولهذا المسجدُ سبعةُ أبوابٍ؛ تُعدُّ من أقدسِ وأهمِّ المعالمِ الإسلاميةِ والتاريخيةِ في زهرةِ المدائنِ، وحديثُنا في هذا العددِ عن بابِ المغاربةِ؛ وهو آخِرُ بابٍ في السورِ الغربيّ من الجهةِ الجنوبيةِ للمسجدِ الأقصى المباركِ، وهو أقربُ الأبوابِ إلى المسجدِ؛ حيثُ يصلُ أهلَ سلوانِ، والثوريّ، وجبلِ المكبّرِ بمَسجدِهم المباركِ.
ويعدُّ بابُ المغاربةِ _الذي رمَّمهُ وجدَّدهُ السلطانُ “سليمان القانوني”_ من أهمِّ أبوابِ المسجدِ الأقصى؛ وله مكانةٌ خاصةٌ للمسلمينَ في كافةِ أقطارِ العالمِ؛ حيثُ تَعودُ تسميتُه التاريخيةُ إلى سكانِه المُنحدِرينَ من دولِ المغربِ العربي، الذين كانوا يَعبرونَ منه لزيارةِ المسجدِ الأقصى، كما يعدُّ البابُ جزءًا من حارةِ المغاربةِ؛ وهي من أشهرِ الحاراتِ الموجودةِ في البلدةِ القديمةِ في القدسِ؛ فقد شكّلتْ هذه الحارةُ مقصدًا لطلابِ العلمِ؛ إذْ زارَها وتعلَّمَ وعلَّمَ فيها عددٌ من علماءِ المغربِ.
مشاهدُ تاريخية
قبلَ عامِ (1967)؛ كان أيُّ مسلمٍ وزائرٍ لحيِّ وبابِ المغاربةِ؛ يستقبلُه طلبةُ الفِقهِ المالكي والمغاربةُ بلهجتِهم وثيابِهم المغربيةِ؛ حيثُ كان هذا الحيُّ يضجُّ بالحياةِ، وكان مهدَ المَعالمِ الإسلاميةِ العريقةِ؛ أمّا اليومَ فما إنْ تدخل هذا الحيَّ؛ إلّا وتصدمُكَ مشاهدُ لبشرٍ غُرباءَ عن هذه الأرضِ؛ لهجتُهم وعاداتُهم غريبةٌ؛ ولكنّ ثباتَ أهلِ الحيِّ من المغاربةِ والمَقدسيّينِ، وبقاءَهم حتى يومِنا هذا؛ ما زالَ علامةً فارقةً على بقاءِ الحياةِ في القدسِ، وعلى الحفاظِ على هويةِ القدسِ ومعالمِها التاريخيةِ.
“السعادة” كانت على موعدٍ مع التاريخِ والحضارةِ الإسلاميةِ؛ بزيارةِ بابِ المغاربةِ، ففي الساحةِ المقابِلةِ للبابِ؛ وهي الساحةُ الخارجيةُ له؛ وقبلَ الدخولِ إليه؛ تَصدمُك مشاهدُ الجنودِ، وعناصرِ الشرطةِ الإسرائيليةِ، والمتديّنينَ اليهودِ والمستوطنينَ، فهُم أكثرُ المتواجدينَ في هذه المنطقةِ، ويرفعونَ أعلامَ دولتِهم الغاصبةِ، فيما تلاحِظُ التركيزَ الأمنيَّ في محيطِ حيِّ وحارةِ المغاربةِ، في أعلَى البابِ تُنصَبُ كاميراتُ المراقبةِ الإسرائيليةِ، إلى جانبِ تواجُدٍ كثيفٍ لعناصرِ الشرطةِ الإسرائيليةِ، الذين يسيرونَ بأعدادٍ كبيرةٍ؛ وكأنهم في مهمّةٍ عسكريةٍ.
ولكنّ هذه المَشاهدَ لا يُمكِنُ لها أنْ تَحرِمَك من متعةِ النظرِ إلى الجمالِ الفنيّ للبابِ، والذي يُعدُّ مزيجًا بين عراقةِ التاريخِ في الزمانِ والمكانِ؛ حيثُ يعدُّ فنًّا رائعًا للعمارةِ الشرقيةِ في بيتِ المقدسِ، فهذا البابُ مستطيلُ الشكلِ؛ ويعلوهُ قوسٌ حجريٌّ مرتكِزٌ عليه قوسٌ صغيرٌ مدَبّبٌ ومُزركَشُ الأطرافِ، وفوقَه يظهرُ رسمٌ لزهرةٍ منقوشةٍ أو منحوتةٍ في الصخرِ؛ بالإضافةِ إلى أبراجٍ مستطيلةِ الشكلِ كسائرِ أبوابِ القدسِ.
هذا المشهدُ لا يفارقُ ناظرَيكَ حتى تَدخُلَ من أسفلِ بابِ المغاربةِ، لِتُصطَدِمَ مرةً أخرى بمشهدِ الجنودِ واليهودِ وهو يتجوّلونَ؛ إمّا سيرًا على الأقدامِ، أو وهم يستقلِّونَ سياراتِهم داخلَ المناطقِ التي يؤدي إليها البابُ، فيما تستوقِفُكَ إحدى مشاهدِ التهويدِ وطمسِ الهويةِ الإسلاميةِ؛ حيثُ توجدُ بجانبِ البابِ ما تُسمَّى “بحديقةِ الآثارِ”؛ وهي التي بناها الصهاينةُ على آثارٍ إسلاميةٍ؛ حيثُ كانت توجدُ قديمًا المدرسةُ الأفضليةُ التي بناها الملكُ الأفضلُ ابنُ شقيقِ “صلاح الدين الأيوبي”؛ ولكنها هُدمتْ هي والعديدُ من المنازلِ والمعالمِ الإسلاميةِ التي كانت تابعةً لحيِّ المغاربةِ؛ لتُقامَ هذه الحديقةُ اليهوديةُ.
وما أنْ تسيرَ داخلَ البابِ؛ وتتعمّقَ بداخلِه؛ حتى تَجدَ نفسَك داخلَ حيِّ المغاربةِ، وإذا نظرتَ إلى الجهةِ القِبليةِ من الحيِّ؛ تشاهدُ منظرًا يأسِرُ قلبَ أيِّ مسلمٍ يدخلُ من هذا البابِ، فهذه المنطقةُ موجودةٌ على جبالٍ مرتفعةٍ؛ حيثُ ترى حيَّ سلوان، وأبو ديس، وجبلِ الزيتونِ، والجهةَ القِبليةَ للمسجدِ الأقصى المباركِ، والجهةَ القِبليةَ للقصورِ الأمويةِ، والقبّةَ الرصاصيةَ للمسجدِ القِبلي، ومئذنةَ السلسِلةِ، ومئذنةَ الغوانمةِ، ومئذنةَ حارةِ المغاربة ؛ِالتي مازالت شامخةً حتى يومِنا هذا.
مكانةٌ مُهِمةٌ
وللحديثِ عن مكانةِ وأهميةِ بابِ وحارةِ المغاربةِ؛ التقتْ “السعادة” الشيخَ الدكتورَ “رائد فتحي”، المحاضرَ في كليةِ الدعوةِ والعلومِ الإسلاميةِ في “أمِّ الفحمِ”، حيثُ يقولُ:” إنّ أصلَ بابِ المغاربةِ وتَطوُّرَه يعودانِ إلى الفترةِ الأيوبيةِ والمملوكيةِ، وافتتاحَ هذا البابِ كان تسهيلاً لدخولِ المغاربةِ القادمينَ من المغربِ والجزائرِ وتونسَ؛ وأُقيمَ كوَقفٍ في عهدِ “علي بن صلاحِ الدينِ الأيوبي” رحِمَه اللهُ”.
ويضيفُ: ” في ذلكَ الوقتِ لم يكنْ هناكَ جسرًا؛ بل كانت طريقًا رئيسةً عاديةً تمرُّ عبرَ أحياءِ القدسِ، وهو طريقٌ سالِكٌ تعرّضَ للهدمِ؛ عندما تعرّضتْ حارةُ المغاربةِ للهدمِ على مرحلتينِ: الأولى كانت عامَ (1967)؛ حينما قامت جرّافاتُ الاحتلالِ الإسرائيليّ بتدميرِ مبانٍ وأجزاءٍ من حارةِ المغاربةِ؛ والثانيةُ عندَ استكمالِ مشروعِ الهدمِ في عامِ (1969)؛ بعدَ هدمِ أجزاءٍ من التلّةِ”.
ويتابعُ قولَه:” وبعدَ ذلكَ أصبح الطريقُ المؤدي إلى المسجدِ الأقصى منذُ عامِ (1967) إلى عامِ (2004) هو الذي تمَّ نتيجةَ انهيارِ الطريقِ بسببِ الحفرياتِ الإسرائيليةِ أسفلَها، وتفريغِ الترابِ من تحتِ الطريقِ، حيثُ تمَّ وضعُ جسرٍ خشبيٍّ مؤقَّتًا للاستغناءِ عن الطريقِ، ثُم وضْعُ مشروعٍ من القواتِ الإسرائيليةِ لاستبدالِ الجسرِ الخشبيّ بجسرٍ ثابتٍ؛ وهذا ما أثارَ غضبَ المقدسيينَ”.
ويشيرُ إلى أنّ الاحتلالَ بعدَ هذه الإجراءاتِ فرضَ قيودًا صارمةً على دخولِ المقدسيينَ لبابِ المغاربةِ، حيثُ باتت نسبةُ الفلسطينيينَ الذين يدخلونَ البابَ (7%) من نسبةِ الداخلينَ، فيما تعدُّ الغالبيةُ الداخلةُ من اليهودِ والمتديّنينَ والمستوطنينَ والجنودِ.
ويوضّحُ: إنّ الحياةَ في حارةِ وبابِ المغاربةِ كانت قبلَ عامِ (1967) نابضةً بالحياةِ، حيثُ المغاربةُ يتواجدونَ بكثرةٍ ولهم أوقافٌ، مشيرًا إلى أنّ الاحتلالَ عندما احتلَّ القدسَ؛ دمّرَ وأبادَ وطمسَ كلَّ المعالمِ الإسلاميةِ هناك؛ حيثُ كان يوجدُ (150) عقارٍ إسلامي؛ منها مسجدُ البُراقِ الذي بناهُ الملكُ الأفضلُ، والمدرسةُ الأفضليةُ التي كانت تدرّسُ الفِقهَ المالكيّ؛ إذْ قامَ الاحتلالُ بهدمِ جميعِ هذه المعالمِ.
ويطلَقُ على بابِ المغاربةِ _بحسبِ الشيخِ فتحي_ بابُ النبي؛ وهو البابُ الذي دخلَ منه سيدُنا محمدٌ _عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ_ ليصليَ بالأنبياءِ يومَ الإسراءِ والمعراجِ، وهو البابُ الذي خرجَ منه ليَعرُجَ إلى السماواتِ العُلَى، ويرتبطُ اسمُ حائطِ البُراقِ بقصّةِ الإسراءِ والمعراجِ في التاريخِ الإسلامي، فيما يعدُّ بابُ المغاربةِ أقربَ الأبوابِ إلى حائطِ البُراقِ؛ لذلكَ يطلقُ عليه أيضًا بابُ البُراقِ.
تهويدٌ وطمسٌ
ما أنْ تسيرَ داخلَ البابِ وحيِّ المغاربةِ؛ فإنّ مشاهدَ التهويدِ وطمسِ الهويةِ الإسلاميةِ تطارِدُك أينما وجّهتَ نظرَك، فداخلُ حارةِ المغاربةِ يوجدُ صندوقٌ زجاجيٌّ كبيرٌ؛ بداخلِه الحاملُ الحديدُ للشمعدانِ العِبري، والجنودُ مُلتفِّينَ من حولِه، في محاولةٍ لتشويهِ وتزويرِ التاريخِ، وإذا نظرتَ إليه تجِدُه يصِلُ مباشرةً إلى القبّةِ الرصاصيةِ لمسجدِ قبّةِ الصخرةِ _وذلكَ بحسبِ الشيخِ فتحي_.
ويلفتُ المحاضِرُ في كليةِ الدعوةِ والعلومِ الإسلاميةِ في أمِّ الفحمِ؛ إلى أنّ الاحتلالَ استولَى بالكاملِ على حارةِ وبابِ المغاربةِ؛ وذلكَ في محاولةٍ للاستيلاءِ على مدخلِ بابِ الحارةِ؛ لأنه أقربُ مدخلٍ إلى المسجدِ الأقصى؛ وهو بابٌ مُهِمٌّ يصِلُ مباشرةً إلى المسجدِ الأقصى المباركِ، محذِّرًا من خطورةِ استخدامِ هذا البابِ لتقسيمِ المسجدِ الأقصى المباركِ، ودخولِ الجنودِ وعناصرِ الشرطةِ والمستوطنينَ.
حكايةُ تهجيرٍ
الطريقُ داخلَ بابِ وحارةِ المغاربةِ توصِلُكَ لحائطِ البُراقِ؛ ولكنْ ليس داخلَ ساحةِ الحائطِ، وإنما تَجدُ سياجًا حديديًّا يفصِلُ بعضَ المنازلِ التي ما زال يسكنُها المغاربةُ والمقدسيونَ؛ ومنها منزلُ الحاجّةِ “عائشة المغربي”، التي مازلت موجودةً في حيِّ المغاربةِ منذُ عامِ (1967)؛ ولم تفارِقْهُ رغمَ كلِّ المجازرِ الإسرائيليةِ، ومحاولاتِ التهويدِ والتهجيرِ، حيثُ كان منزلُها يوجدُ على أقربِ نقطةٍ لحائطِ البُراقِ؛ ولكنّ الاحتلالَ هدمَه كما هدمَ المعالمَ والمنازلَ الإسلاميةَ فيها.
وتقولُ الحاجّة عائشة لـ”السعادة”، وهي تقفُ على بابِ منزلِها:” إنّ حارةَ المغاربةِ تعودُ إلى عهدِ “صلاح الدين الأيوبي”، حيثُ قدِمَ جدودُنا مُجاهدينَ ومرابطينَ؛ عندما وجَّهَ صلاحُ الدينِ الدعوةَ للجهادِ؛ وجاءتْ قبائلُ كاملةٌ “رجالاً ونساءً” من دولِ المغربِ العربيّ للجهادِ، وطلبوا أنْ يبقوا في القدسِ، وتكريمًا لجهادِهم نصحَهم “صلاح الدين” أنْ يبقوا بالقربِ من حائطِ البُراقِ والمسجدِ الأقصى، ومنهم من أسكنَهم “صلاحُ الدين” وبدأت “الوقفياتُ” من قِبلِ ابنِ أخيهِ الملكِ الأفضلِ؛ حيثُ أوقفَ الكثيرَ من الأوقافِ للمغاربةِ، وبقيَ الأمرُ كذلكَ حتى عامِ (1967)”.
وتضيفُ:” في عامِ (1967) كانت أولُ حارةٍ تتعرضُ للهدمِ والتهجيرِ من قِبلِ الاحتلالِ هي حارةُ المغاربةِ، وذلكَ بذريعةِ أنْ يُقيموا شعائرَهم عندَ حائطِ البُراقِ الذي يُطلِقونَ عليه حائط َالمَبكَى”.
وإذا سِرنا قليلاً عن منزلِ الحاجةِ “عائشة” نكونُ أمامَ المَدخلِ المؤدّي لحائطِ البُراق، ولكنّ الدخولَ إليهِ يحتاجُ إلى تصريحٍ وموافقةٍ أمنيةٍ من قِبلِ الاحتلالِ؛ إذْ إنّ سكانَ القدسِ يُمنعُ عليهم دخولُه، حيثُ توجدُ بوابةٌ إلكترونيةٌ، وكاميراتُ مراقبةٍ، وأجهزةُ تفتيشٍ، وعناصرُ الشرطةِ طوالَ الوقتِ.
وأمامَ هذه البوابةِ الالكترونيةِ يوجدُ بوابةٌ خشبيةٌ تمَّ ترميمُها من قِبلِ وكالةِ “بيتُنا” للقدسِ الشريفِ المغربيةِ، والتي يوجدُ مقرُّها في مدينةِ الرباطِ عاصمةِ المملكةِ المغربيةِ، تدخلُ البوابةَ حتى تصِلَ إلى مسجدِ زاويةِ المغاربةِ، فهذه الزاويةُ كان يمارسُ فيها شعائرُ دينيةٌ، ويوجدُ خارجَ المسجدِ ساحةٌ كبيرةٌ؛ كان يجتمعُ فيها رجالُ الحيِّ، ويومَ الجمعةِ كان يقامُ فيها موائدُ طعامٍ على حسابِ وقفيةِ المغاربةِ.
وتقولُ الحاجةُ عائشة المغربي:” نحن تحتَ المراقبةِ (24) ساعةً؛ حيثُ توجدُ كاميراتُ المراقبةِ على أعلى الأسوارِ، ويوجدُ رقابةٌ يوميةٌ من قِبلِ الجنودِ، ويعتدونَ علينا بالألفاظِ المعاديةِ، ويصفوننا بالإرهابيينَ”.
عندَ هذه المشاهدِ الداميةِ كانت نهايةُ رحلتِنا الممزوجةِ برائحةِ التاريخِ والحضارةِ التي يحاولُ الاحتلالُ أنْ يشوِّهَها بالهدمِ والتهويدِ، وطمْسِ الهويةِ الإسلاميةِ؛ ولكنّ سكانَها ما زالوا ثابتينَ فيها، وما زلوا يَحملونَ نداءَ “صلاح الدين” للجهادِ حتى تحريرِ القدسِ من دَنَسِ المحتلِّ.