لا تَنْكَبّوا على الدنيا ولا تَغرقوا فيها
قصةٌ قصيرةٌ تبدأُ حينما نزلَ كاتبٌ باكستانيٌّ من حافلةٍ أقلّتْهُ إلى مدينةِ “دِلهي” للعملِ هناكَ، يقولُ: “فتَّشتُ جيوبي لأُفاجأَ وقتَها بأنَّ أحدَهم قد سرَقَني دونَ أنْ أشعُرَ؛ وما كان في جيبي سِوَى تِسعِ روبِّياتٍ، ورسالةٍ ورقيةٍ في ظرفٍ ورَقيٍّ؛ كُنتُ قد كتبتُها إلى أمي، وكتبتُ لها أُخبِرُها: “أمي الحنون، لقد فُصِلتُ من عملي؛ ولا أستطيعُ أنْ أُرسلَ إليكِ هذا الشهرَ مبلغَ الخمسينَ روبيّة المعتادة”.
وكان صاحِبُنا قد وضعَ رسالتَه في جيبِه لمدّةِ ثلاثةِ أيامٍ؛ على أملِ إرسالِها في وقتٍ لاحقٍ بما يتوَفَّرُ من روبيّاتٍ؛ وبالرغمِ من أنَّ الروبيّاتِ التِّسعَ التي سُرقتْ لا تساوي شيئًا؛ لكنّ الذي فُصِلَ من عملِه، وسُرقَ مالُه؛ تساوي في نظرِه (9000) روبيةٍ!
مضتْ أيامٌ حتى وصلتْني – والحديثُ للكاتبِ الباكستاني- رسالةٌ من أمي؛ توَجّسْتُ خوفًا، وقلتُ في نفسي: لا بدَّ أنها طلبتْ المبلغَ الذي اعتدتُ على إرسالِه إليها دوريًّا؛ لكني عندما قرأتُ الرسالةَ احترتُ؛ كونَها تحملُ شكرًا وثناءً ودعواتٍ منها لي، قائلةً: “يا بُني، لقد وصلتْني منكَ (50) روبِّيةً عبرَ حوالتِك الماليةِ!، كم أنتَ رائعٌ يا بُنيَّ؛ ترسلُ لي المبلغَ في وقتِه؛ ولا تتأخَّرُ بتاتًا؛ رغمَ أنهم فصلوكَ من عملِكَ، أدعو لكَ بالتوفيقِ وَسِعةِ الرزقِ”.
“لقد عشتُ متردِّدًا محتارًا لعِدّةِ أيامٍ متواصلةٍ، ما الذي يجري معي! لا أصدّقُ! مَنْ يا تُرَى ذاكَ الذي أرسلَ هذا المبلغَ إلى أمي؟! وكيف؟ ومتى؟ ولماذا!”.
بعدَ أيامٍ وصلتْني رسالةٌ أُخرى بخطِ يدٍ بالكادِ أنْ تُقرأَ؛ كتبَ فيها صاحبُها: “مَرحَبًا، لقد حصلتُ على عنوانِكَ من ظرفِ الرسالةِ الورقيةِ، وقد أضفتُ إلى روبيّاتِكَ التسعةِ، إحدى وأربعينَ روبيّةً؛ كنتُ قد جمعتُها سابقًا، وأرسلتُها حوالةً ماليةً إلى أمِّكَ حسبَ العنوانِ الذي في رسالتِك، وبصراحةٍ فإني قد فكّرتُ في أُمّي وأُمِّكَ؛ فقلتُ في نفسي: لماذا تبيتُ تلكَ المرأةُ المسكينةُ أيامَها طاويةً على الجوعِ؛ وأتحمَّلُ أنا ذنبَكَ وذنبَها؟ تحياتي لكَ، أنا صاحبُكَ الذي نشَلَكَ في الحافلةِ فسامِحني!
انتهتْ القصةُ.
أحيانًا نصادفُ أصنافًا مختلفةً في المجتمعِ، بينَهم الزاهدُ العابدُ، ومنهم القاتلُ المجرمُ، وفيهم الخلوقُ الراقي، أو صاحبُ الأسبقياتِ المتنوّعةِ، إلى غيرِ ذلكَ من الأشكالِ؛ لكنّ العِبرةَ في الخاتمةِ، كيف ستنتهي حياةُ هذا وذاكَ؟ وما مصيرُ فلانٍ وعِلّان؟ الإجابةُ: اللهُ أعلَمُ؛ ولكنْ مَن عملَ صالحًا فلِنفسِه، ومن أساءَ فعليها.
كثيرونَ مَن نَهبوا أموالاً محسومةً؛ ليستْ من حقِّهم، ولم يَعودوا، وكثيرونَ مَن تجاوَزوا دماءً معصومةً لا يحِقُّ لهم إراقتُها، ولم يعودوا، وكثيرونَ من أخطأوا في حقوقٍ معروفةٍ لا يجوزُ لهم انتهاكُها، ولم يعودوا، وكثيرونَ وكثيرونَ وكثيرونَ!
الناسُ “مُكَلِّبون” ومُنكَبّون على الدنيا، وفي غفلةٍ مُعرِضونَ، لا يحبّونَ أنْ يقولَ لهم أحدٌ: يا فلانُ، انتَبِهْ، أنتَ على خطأٍ؛ بل إنهم يرغبونَ في التطبيلِ و”التسحيج” وإسدالِ الثناءِ والشكرِ دونَ وجهِ حقٍّ، ودونَ استحقاقٍ، إلّا مَن رَحِمَ الله.
العودةُ إلى اللهِ من أخطرِ المبادئِ التي يغفُلُ عنها كثيرٌ من الناسِ، فمنهم من يغرقُ في الدنيا إلى أخمُصِ قدَمَيهِ؛ دونَ أنْ ينتبِهَ إلى نهايتِه، وقليلٌ منهم من يعودُ ويرجعُ، وكثيرٌ منهم من تنقضي حياتُه دونَ رجوعٍ ولا عودةٍ ولا حتى استغفارٍ.. فكونوا على حذَرٍ!