فقّاعاتُ صابونٍ
في جلسةٍ مع صديقةٍ؛ تَبادلْنا فيها أحاديثَ متنوّعةً؛ تَطرَّقْنا كيف تُغيِّرُنا المواقفُ والتجاربُ، كيف لها أنْ تَصنعَنا من جديدٍ؛ وتغيّرُ فينا الكثيرَ، وفجأةً سألتْني: أين نذهبُ حينَ نشعرُ أنّ الأماكنَ لا تتَّسِعُ لنا ؟ أين نذهبُ حينَ نُخذَلُ ممّن كُنا نظنُّهم الأمنَ والأمان؟ بدونِ تردُّدٍ أجَبْتُها: إلى اللهِ، فاللهُ لا يَخذلُ قلبًا لجأَ إليه ..حينَ نلجأُ إلى اللهِ يمدُّنا بالقوةِ والثباتِ والتجاوزِ، تجِدُ نفسَك تقاومُ وتستعيدُ ترميمَ نفسِكَ من جديدٍ .
الحياةُ لا تنتهي مع خَيبةِ أملٍ، وفقدانِ ثِقةٍ، وصفعةٍ على الوَجهِ، يكفي أنْ نَدوسَ عليها بأقصى نضجٍ نَملِكُه، ونضحكَ على خيباتِنا؛ بل ونخيّبُ ظنَّ مَن خذلونا، فلا شيءَ أقوَى من قلوبٍ تجرّعتْ مرارةَ الخيباتِ؛ واستعادتْ قوَّتَها.
ليس غريبًا أنْ يأتيَك الخذلانُ ممَّن كنتَ تَظنُّه أقربَ الناسِ إليكَ، وكنتَ في أشدِّ الحاجةِ لِطَبطبةٍ منه، والوقوفِ بجانبِكَ، كنتُ تريدُ أنْ يأخذَ بيدِك إلى برَّ الطمأنينةِ والهدوءِ؛ مَن يخَفِّفُ حزنَك؛ فلم تكنْ تريدُ أكثرَ من ذلكَ؛ ولكنّه خذلَكَ في أعزِّ احتياجِك له..
الخذلانُ منهم كفيلٌ أنْ يُخبَرَك أنَّ كلَّ اللحظاتِ التي جمَعتْكَ بهم؛ ما هي إلا فقاعاتُ صابونٍ؛ رغمَ أنكَ تمسّكتَ بها بِكِلتَي يديكَ؛ وبكُلِ قوةٍ؛ إلّا أنها تَطايَرتْ إلى أماكنَ لا يحقِّ لكَ الوصولُ لها، أو أنها تلاشتْ قبلَ وصولِك.
نحن بحاجةٍ إلى التأمُّلِ، وإعادةِ ترتيبِ علاقاتِنا؛ حتى لا نتعرّضَ للخذلانِ مرّةً أخرى، علينا الابتعادَ عمَّنْ كان سببًا في خسارةِ أنفُسِنا وحُبِّنا للحياةِ، لمَن قتلوا أجملَ ما فينا، لمن استمرؤوا عطاءَنا وتقديرَنا واحترامَنا، واستغلّوا طِيبتَنا وعطاءَنا، فلم نَجِدْ منهم إلا سوءَ التقديرِ والأنانيةَ والخذلانَ .
لن نعيشَ حياتَنا مرّتينِ؛ فلا تسمحْ باستغلالِكَ مرّةً أخرى، لا تُكَرِّرْ أخطاءَك، لا تستنزفْ طاقتَك وصحتَك ونفسيّتَك؛ لِمَن لم يُقَدِّرْ ما تفعلُه لأجْلِه، لمنَ لم يفعلْ لأجلِ راحتِك وابتسامتِك، لمَن استباحَ دموعَك وحزنَك، وهُنتَ عليه آلافَ المرّاتِ، وبرَّرَ ذلك بأنه لم يقصدْ أذِيَّتَك! انتَبِهْ.. فالحياةُ لا تحمي المُغَفَّلينَ .
إذاً علينا أنْ نتعلّمَ من تجارِبِنا وأخطاءِ غيرِنا، وأنْ نتعاملَ بوَسَطيةٍ وتَوازنٍ في علاقتِنا بالآخَرينَ، فكُلُّ شيءٍ زادَ عن حَدِّهِ؛ انقلَبَ إلى ضِدِّه، وألا نَنَسَى أنفُسَنا أبدًا، في غمارِ الحياةِ وتقلُّباتِها يتعيّنُ أنْ نجعلَ المواقفَ هي التي تُقرِّرُ مَن نُصلِحَ علاقتَنا به، ومن يذهبُ غيرَ مأسوفٍ عليه، ومن نَبقَى على وُدٍّ معه، فصفاءُ القلوبِ والنوايا الحسنةِ قِيَمٌ لا تُدرِكُها كلُّ نفس.
علينا أنْ نتعلّمَ مبدأَ العطاءِ بلا مُقابِلَ، والحِكمةَ في التعاملِ مع الأشخاصِ بخَفْضِ سقفِ التوَقُّعاتِ، فلن نكونَ سِوى أنفُسِنا بأيِّ حالٍ، فلا أحدَ يُشبِهُ أحدًا، ويقومُ مقامَه، وحتى تحميَ نفسَكَ من ألمِ الخذلانِ وخَيبةِ الأملِ بالآخَرينَ؛ خُذْ مسافةَ أمانٍ بينَكَ وبينَهم .
ولا تُعطي الأشياءَ أكبرَ من حجمِها، وتوَقّفْ عن كَونِكَ مخذولاً، فالشجعانُ فقط من يخوضونَ معاركَ الحياةِ، ومساكينُ مَن لا يملِكونَ حكاياتٍ مُوجِعةً، فبَقَدْرِ ما حَملْتَهُ من ألَمٍ؛ يأتيكَ نُضجٌ كبيرٌ ..