Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
مقالات

حينَ نهشَ السرطانُ روحي

كنتُ طالبةً على مقاعدِ الابتدائيةِ؛ لكنّي كنتُ أشعرُ أنني مختلفةٌ عن الأُخرياتِ اللواتي يتشابهنَ معي في العمرِ، والجمالِ، وقوةِ الشخصيةِ، وقَدرِ الذكاءِ والتحصيلِ الدراسي، شعوري أني مختلفةٌ كان قادمًا من إيماني التامِّ أنى قريبةٌ جدًّا من اللهِ، لقد كان يرعاني أينما حلَلتُ؛ ويعطيني دومًا أكثرَ ممّا أستحِقُّ؛ وأكثرَ ممّا أتمنَّى، وأفضلَ ممّا طلبتُ في كلِّ المرّاتِ، وكنتُ أعجَبُ من هذا العطاءِ؛ لاسيّما حينَ تأخذُني الحياةُ؛ فأركنُ في زاويةِ التقصيرِ أمامَ اللهِ.

في السنواتِ العشرِ الأخيرةِ؛ كانت نِعمُ اللهِ مُغدقةً، وطبطَبتُه واضحةً ألمسُها في كلِّ دقيقةٍ من حياتي، وكنتُ أحدّثُ بنِعَمِه عليَّ بصورةٍ تدفعُ المحيطيينَ لأنْ يقولوا لي “داري على شمعتك تقيد “، وكنتُ أُجيبُهم: إنَّ الحديثَ عن النّعمِ من بابِ الشكرِ للهِ؛ فشُكري على نِعمةٍ قد يلفتُ آخَرَ لأنْ يَحمَدَ اللهَ شاكرًا نعمَةً قد غفلَ عنها.

كأُمٍّ في السنواتِ الأخيرةِ، كانت تتردَّدُ في أُذني عبارةُ (إنَّ اللهَ إذا أحبَّ عبدًا ابتلاه) ، قد حسبتُ أنّ اللهَ لا يحبُّني فترةً غيرَ قصيرةٍ؛ خاصةً عندما كنتُ أسمعُ قصصَ صديقاتي حولَ مرضِ أبنائهِنَّ، أو أسمعُ أنّ طفلةً تعرّضتْ للدّهسِ،  أو طفلاً لدَيهِ مشكلةٌ في القلبِ، أوِ النظرِ، أو ما إلى ذلك من مشاكلَ، ولا أخفيكم في الشتاءِ تشكو كلُّ الأمهاتِ من مرضِ أبنائهِنَّ؛ إلا إنني كنتُ أُحدّثُ نفسي (الحمدُ للهِ.. أطفالي بخير) ، ثُم أُتبعُ ذلكَ سؤالا في داخلي؛ لماذا لا يمرضُ أطفالي؟ هل اللهُ لا يحبُّني أم أنه يستجيبُ لدعائي الصباحي له طيلةَ طريقي لعملي ” حبيبي يا الله، أَتمِمْ نعمتَكَ التي أحبُّ، فلا تَحرِمنِ مُتعةَ نعمَتِكَ؛ وأنا أَمَتُكَ المُقصِّرةُ البائسةُ “.

والحقيقةُ إنني كنتُ أشعرُ أنّ اللهَ يهمسُ في قلبي لقد حفظتُ لكِ نعمَكِ.

في هذا الصيفِ، وأنا على غرّةٍ من الحياةِ الصاخبةِ؛ بفعلِ الحرارةِ وكثرةِ المناسباتِ الاجتماعيةِ؛ حملتْني أحاسيسي الغريبةُ إلى حملِ طفلي “ياسين” إلى عدّةِ مستشفياتٍ لفَحصِ جسدِه الصغيرةِ؛ بعدَ أنْ لاحظتُ انتفاخًا صغيرًا في بطنِه، كلُّ الأطباءِ أبلغوني أنَّ الأمرَ عارِضٌ؛ لكنّ قلبي كان يُخبِرُني أنَّ “ياسين” ليس بخيرٍ، وهل تَكذِبُ الأمومةُ، ويَصدُقُ الأطباءُ!!

بعدَ أقلّ من (72) ساعةً فقط؛ كنتُ داخلَ مستشفى عبد العزيز الرنتيسي للأورامِ والدمِ؛ فقد شخَّصَ إصابةَ طفلي بسرطانِ الغُددِ الليمفاوية.

لا شيءَ في العالمِ يُشبِهُ أنْ تكوني أمًّا لطفلٍ مريضٍ بالسرطانِ، وأنتِ تعرفينَ كيف يأكلُ السرطانُ الأرواحَ والأجسادَ! لا شيءَ يمكنُ أنْ يصِفَ الصدمةَ ولا المَشاعرَ، لا شيءَ يمكنُ أنْ يُوقِفَ تفكيرَكِ بكُلِّ ما هو سيءٌ قادمٌ، الدموعُ والبكاءُ في هذه اللحظاتِ أبدًا غيرُ كافيةٍ؛ ولا تزيلُ من عبءِ الثقلِ شيئًا، حتى الصلاةُ تغيبُ فيها لحظاتُ السكونِ والرضا؛ تبدأُ بالدعاءِ والبكاءِ؛ وتصِلُ إلى أنْ تسألي اللهَ؛ لماذا هذا الوجعُ؟ لماذا “ياسين”؟ ثُم تَعودينَ للرجاءِ بالشفاءِ.

معركتي مع المشاعرِ والتفكيرِ؛ كادت تُفقِدُني عقلي؛ إلى أنْ جاء صوتٌ أُحبُّه وأسمعُه في كلِّ الأزماتِ؛ يقولُ لي “إنَّ اللهَ إذا أحبَّ عبدًا ابتلاهُ”؛ وهذا هو حبُّ اللهِ الذي كنتِ تسألينَه، وهل أنتِ على قدرِ هذا الحبِّ؟، هل أنتِ من الحامداتِ الشاكراتِ الراضياتِ؟ بعدَ أيامٍ كنتُ قد حسَمتُ المعركةَ؛ ورضيتُ أنْ أكونَ جنديًّا في معركةٍ أرادَ اللهُ لي أنْ أخوضَها على جبهاتِ الحياةِ؛ هذه المرّةَ كأُمٍّ مع طفلي “ياسين”.

الموازنةُ بينَ كيانِك بالكاملِ؛ واحتياجِ طفلِك في مرحلةٍ ما؛ أمرٌ في غايةِ الصعوبةِ، أنْ تكونَ بحاجةٍ إلى الصراخِ والبكاءِ بأعلَى صوتِك؛ ورغمَ ذلكَ تبتسمينَ ابتسامةَ وَداعةٍ وهادئةٍ أمرٌ لم تَشرحْهُ كتبُ الرياضياتِ، ولا نظرياتُ العلومِ ولا أبجدياتُ اللغةِ وآدابُها؛ لكنّ مشاعرَ الأمومةِ وحدَها استطاعتْ ذلكَ؛ حين تُخبِرُك في هدوءٍ “طفلُكِ بحاجتِكِ الآنَ”، هذه الموازنةُ العميقةُ التي كنتُ أحسبُها خيالاً؛ صنعتْ منّي امرأةً أنا لا أعرِفُها! أسالُها بينَ الفينةِ والأخرى؛ هل ما زال قلبُكِ يعملُ أيتُها السيدةُ؟

رضا اللهِ الذي أشعرُ به؛ يُخبِرُني أنّ معركتي مع السرطانِ ستنتهي قريبًا؛ وستكونُ تجربةً مُلهِمةً لأنْ أخطوَ في هذه الحياةِ بدِقّةٍ أكثرَ، ففي هذه المرحلةُ اكتشفتُ خبايا نفسي ومكنوناتِها، في هذه المعركةِ أدركتُ أنّ كلَّ شيءٍ مُمكِنٌ بقرارٍ وإرادةٍ، في هذه المعركةِ أدركتُ أنّ تضحياتِ و خسائرَ الأمهاتِ في كلِّ مراحلِ الحياةِ؛ هي الأقوى ، في هذه المعركةِ أدركتُ أنَّ النساءَ مدرسةُ الحياةِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى