أُمهاتٌ بيوتُهُنَّ مليئةٌ بالحُبِّ والتضحية
كانت أمي أُنموذجًا جميلًا للنساءِ الفلسطينياتِ في الماضي؛ هؤلاءِ النسوةُ اللواتي كانت بيوتُهنَّ مليئةً بالحبِّ والتضحيةِ والعطاءِ غيرِ المحدودِ، والتوافقِ الزوجي بعيدًا عن كلِّ المشكلاتِ التي نسمعُ عنها اليومَ، في ظِلِّ التطورِ التكنولوجيّ السريعِ، وفي ظِلِّ النِّسبِ العاليةِ للطلاقِ وللخلافاتِ الزوجيةِ، فالحياةُ والتغيُّراتُ التي طرأتْ على المجتمعِ جعلتْ ممّن يعملونَ في حقلِ الاستشاراتِ الأُسريةِ والتربويةِ في حَيرةٍ من أمرِهم؛ بسببِ تَعقُّدِ الأمورِ بينَ الأزواجِ الجُددِ .
في القديمِ كانت الأُسرَ مُمتدّةً، والحياةُ صعبةً؛ ورغمَ ذلك كان الحبُّ والاحترامُ والتقديرُ يسودُ هذه الأُسرَ؛ أمّا اليومَ فقد أصبحَ الأزواجُ يعيشونَ في أُسَرٍ نَووِيَّةٍ_ أي أكثرُ استقرارًا_ ورغمَ ذلكَ لم يمنعْ هذا زيادةَ وجودِ المشكلاتِ، وعدمِ التفاهمِ والترابطِ والاحترامِ بينَ الأزواجِ؛ لِذا رغبتُ أنْ أتحدّثَ عن أنموذجِ أُمّي؛ وهو أنموذجُ العديدِ من النساءِ اللواتي صنَعنَ المجتمعَ؛ وكانت بيوتُهنَّ منيرةً بالحُبِّ والتفاهمِ والبساطةِ والجمالِ ، لم يكُنْ لدَى أمي الوقتَ مُطلقًا لقراءةِ أيِّ قصةٍ، أو حتى كتابٍ، ولم تَحضُرْ أيَّ دورةٍ تدريبيةٍ، ورُبما استطاعتْ أنْ تستمعَ لبرنامجٍ من خلالِ الراديو، أثناءَ انشغالِها الشديدِ في الأعمالِ التي وُضِعتْ على كاهلِها بطريقِ الصدفةِ ، لم تكنْ أُمي ربّةَ منزلٍ فقط؛ بل كانت مسؤولةً عن كلِّ شيءٍ داخلَ البيتِ وخارجَه، والأصعبُ من ذلكَ أنها لم تقرأْ كتابًا في التربيةِ، وقد كانت نِعمَ المُربية لأبنائها “تسعُ بناتٍ وثلاثةُ أولادٍ”، لا يساعدُها في ذلكَ أحدٌ، فقدْ ترَبّتْ يتيمةَ الأبوَينِ؛ وعندما تزوّجتْ والدي؛ لم يكنْ لجدّتي نصيبٌ في أنْ تراها، أو ترى أحفادَها من ابنِها الوحيدِ ، زِدْ على ذلكَ أنَّ جدّي كان كهلًا مريضًا؛ فكانت ترعاهُ كما ترعَى صغارَها؛ دونَ كَلَلٍ أو مَلَلٍ ، أمي التي لم تَكنْ تَعلمُ عن علمِ الإدارةِ أيَّ شيءٍ؛ كانت تمارسُ هذا العِلمَ بطريقةٍ تطبيقيةٍ على أكملِ وجهٍ؛ من خلالِ متابعةِ كافةِ الأعمالِ التي تتعلّقُ بفِلاحةِ الأرضِ وزراعتِها وسَقيِها ورَشِّها وتهذيبِها وحَصدِ ما فيها من ثمارٍ، وبيعِ ذلكَ للتجارِ ومُحاسبتِهم على ذلكِ، وإعطاءِ العمالِ حقوقَهم، ودراسةِ جَدوَى البيعِ والشراءِ، وتربيةِ الحيواناتِ من أبقار،ٍ وأغنامٍ، والطيورِ بأنواعِها المختلفةِ ؛ كلُ هذا كان يقعُ على كاهلِ هذه المرأةِ التي كان لها من نصيبِ الدلالِ الكثيرُ قبلَ زواجِها؛ فقد كانت مُدَلَّلةَ جدّي، وحبيبتَه الصغيرةَ؛ وهي أصغرُ أخواتِها الأربعةِ سِنًّا ، تحمّلتْ أمي فقدانَ والدَيها وهي صغيرةُ السنِّ؛ ورُبما كان ذلك سببًا بأنْ أعطَتْها الحياةُ النصيبَ الأكبرَ من التعليمِ، فكَما يقولونَ “الحياةُ مدرسةٌ”؛ تخرّجتْ أمي من مدرسةِ الحياةِ؛ و لديها حسٌّ عالٍ من المسؤوليةِ الاجتماعيةِ تُجاهَ نفسِها وأسرتِها ومجتمعِها؛ فكان بيتُها مَلَمًّا للنساءِ كبيراتِ السنِّ، وللضيوفِ الذين يأتونَ إليها من كافةِ أطرافِ المدينةِ؛ بِحُكمِ تَعامُلِهم المستمرِّ معها؛ فبعضُهم كان يعملُ لدَيها، والبعضُ الآخَرُ كان يشتري منها البضاعةَ ، لم تكنْ تعرفُ أنّ الثناءَ على الطفلِ يصنعُ المعجزاتِ؛ لكنها فعلتْ ذلك معَنا؛ فكم من مرّةٍ كانت لنا المَلاذَ الآمِنَ من عقابِ والدِنا أثناءَ ارتكابِنا للأخطاءِ؛ فكانت تُطَبطِبُ علينا بِحُبِّها ، لم تكنْ تَعلمُ أنّ القدوةَ هي التربيةُ؛ لكنّها كانت أفضلَ قدوةٍ، لم تَطَّلِعْ على نظرياتِ الاحتواءِ، وتفهمْ مراحلَ الطفلِ العُمريةَ ؛ لكنها احتوتْ وقدّرتْ وتحمّلتْ؛ وكان النصيبُ الأكبرُ في الاحتواءِ لأبي؛ فهو طفلُها المُدلَّلُ الذي برغمِ انشغالِها الكبيرِ؛ إلّا أنها حافظتْ على تسهيلِ ممارسةِ طقوسِ حياتِه، واستيعابِ طبيعةِ عملِه وسفرِه المتكرّرِ؛ وحتى لقد سيطرتْ على تطبيقِ جوٍّ يَسودُه الهدوءُ بعدَ عودتِه من عملِه لأخذِ قسطٍ من الراحةِ؛ فكانت الفترةُ الممتدّةُ من بعدِ صلاةِ الظهرِ حتى العصرِ عبارةً عن فترةِ هُدنةٍ طويلةٍ؛ يلتزمُ فيها كافّةُ أفرادِ الأسرةِ؛ وحتى الضيوفِ بالصمتِ والهمسِ ، استطاعتْ أمي أنْ تجعلَ أبي يحبُّها ويحترمُها؛ ولا يرى امرأةً دونَها؛ وهي بذلكَ كافأتْهُ بأنْ ربَّتْنا تربيةً إيجابيةً؛ فكانت تستخدمُ طرُقًا مختلفةً تجعلُنا نحبُّ العملَ أكثرَ، ونطيعُها بِحبٍّ ولا نرفضُ لها طلبًا؛ فكان معظمُ الأبناءِ والأحفادِ ينطلِقونَ دونَ تَردُّدٍ لتلبية أوامرِها، وتنفيذِها بكُلِّ حزمٍ؛ ورغمَ هذا الانشغالِ الكثيرِ؛ إلّا أنها لم تُقَصِّرْ مُطلقًا في ممارسةِ العباداتِ والصومِ والصلاةِ، وحَثِّنا على ذلكِ؛ فقد كانت حتى أيامِها الأخيرةِ، ورغمَ مرضِها تُصِرُّ على رؤيةِ كلِّ من في البيتِ يؤدّونَ صلاةَ الفجرِ، ولم تَنسَ أحدًا مُطلقًا من دعواتِها الجميلةِ بعدَ كلِّ صلاةٍ؛ لِذا لم يستغربْ الأطباءُ مُطلقًا عندما كانوا يَمُرُّون على المرضَى؛ ويجدونَها تصلّي وتسبّحُ مرارًا وتكرارًا؛ وهي التي حجّتْ بيتَ اللهِ الحرامَ. بِكُلِّ ما فعلتْ أمي؛ أثبتتْ للجميعِ أنها تفوَّقتْ على كلِّ مُنَظِّري التربيةِ والإدارةِ والدِّينِ وعلمائهم الأفذاذِ؛ فكانت مَدرسةً في التربيةِ والحُبِّ والاحتواءِ والعطاءِ غيرِ المحدودِ ..