مرآتى
- بلادي
منذ مدة سُمح لعدد كبير من الشباب بالعمل في أراضينا المحتلة، شباب ولدوا ونشؤوا في زمن الحروب والحصار، لا يعرفون من المدن سوى غزة، ولا يعرفون من الحياة سوى الكَفاف، فُتحت لهم أبواب السجن للمرة الأولى، ليختبروا شكل الحياة خارجه: بلاد فسيحة، هواء نقي، طرق ممتدة، طبيعة خلابة، وفرص عمل متنوعة. صدمهم جمالها، وصدمهم أكثر اكتشافهم أنهم كانوا يحيون على القنطرة بين الحياة والموت، في مكان ليسوا فيه أمواتاً، ولا يُعَدّون من الأحياء!
يعودون منها بدهشة طفل يزور الملاهي لأول مرة، محملين بأطنان من الحكايا والصور والوصوف، ممتلئين بالإعجاب، يسردون ما رأوا على كل زائر وجليس ومسامر، تبرق عيونهم متعة وأملاً، ثم يعودون سراعاً في اليوم الذي يليه يحملهم الشوق والرهبة، والخوف والحنين، كابن يقابل والدته للمرة الأولى بعد سنين من فقدانها..
يحاولون عيش متعة اللقاء، وتناسي غصة الحرمان، وحقيقة أن بلادهم مسلوبة، ومذلة العمل أُجَراء عند محتل مقابل فتات من نعيم هو ملكهم! يذهبون ويعودون قد ثملت أرواحهم من عذوبة الماء، ولون السهول، ورائحة النسيم، يكررون حكاياتهم كل مرة، دون ملل، ويختمون كلامهم بشرود آلي: “والله بلادنا حلوة”!
- الاكتئاب
حدثتني صديقة عن والدتها، والمرحلة الصعبة التي مروا بها أثناء ظهور أعراض زهايمر مبكر عليها، وكيف أصبحت تعاني خللاً في الإدراك والذكريات، المعضلة أن والدة صديقتي لم تتقبل الحالة المرضية التي تمر بها نظراً لصغر سنها، فتغيرت طباعها، واختلف تعاملها، وأصبحت حادة صدامية سليطة، تفتعل المشاكل من لا شئ، وتقاطع الجميع، ممتنعة عن تناول الطعام والدواء، فتدهورت حالتها أكثر، فضلاً عن صحتها، وبعد أخذ وردّ قررت صديقتي استشارة طبيب نفسي، أخبرها أن تصرفاتها تلك ما هي إلا أعراض اكتئاب، ووصف لها دواءً خاصاً، والمدهش أنها عادت لطبيعتها، واختفت الأعراض السلوكية السيئة التي كانت تعتريها، والتزمت بالعلاج، فتحسنت حالتها النفسية، والصحية معاً!
كانت صديقتي مندهشة، وحزينة، في ذات الوقت، كيف أننا نهمل تعب النفس، ونستثنيه، ونستبعده، ونجد صعبة في تقبل فكرة أن الاكتئاب مرض، يؤثر على سلوك الفرد، ويجعله غير قادر على التصرف أو اتخاذ قرار بطريقة صحيحة، وإن كان صاحبه يبدو طبيعياً، ويمارس أفعاله وأقواله بطريقة واعية، مرض مرتبط بالأمراض العضوية بشكل مباشر، وقد يكون أكثر عضوية منها؛ بدليل أن له علاجاً دوائياً محسوساً.
تأملت حديثها، وقلت في نفسي: كم من مريض يقع ضحية الجهل، أو التجاهل، ثم تتم معاملته بقسوة، أو إطلاق أحكام سيئة عليه! وقد يكون شفاؤه سهلاً بسيطاً كقرص دواء!
- على قارعة الطريق
على قارعة الطريق، بحر بشري من الناس، له بدلاً من الأمواج وجوه متلاطمة، يحمل كل منها هماً، أملاً، حلماً، والكثير من الضجيج.. على قارعة الطريق، آمال منثورة، وأفئدة مكسورة، وأجنحة مبتورة، بعضها يظهر متجلياً بعد أن فشل وجه صاحبه في إخفائه، وبعضها يختبئ خلف وجه مصطنع الملامح..
على قارعة الطريق، يختلط الضحك بالدمعات، والصمت بالكلمات، والوحدة بالجماعات، وفي داخل كل جرم صغير، انطوى العالم الأكبر..