صابونُ نابلُس رسائلُ جمالٍ وحضارةٍ؛ تقعُ تذاكرَ طيرانٍ لكُلِّ العالَمِ
الصابونُ والمَصابِنُ؛ تصارعُ من أجلِ البقاءِ

ما أنْ يُذكَر الصابونُ؛ حتى يُذكَر “الصابونُ النابلسي”، الذي يقطعُ تذاكرَ طيرانِه إلى كلِّ دولِ العالمِ منذُ عقودٍ طويلةٍ؛ كواحدةٍ من أفضلِ الصابونِ عالميًا، حاملاً معه عَبقَ مدينةٍ جُبلتْ بالعروبةِ والحضارةِ منذُ مطلعِ تاريخِها في عامِ ( 3600) قبلَ الميلادِ، وهواءً يُعانقُ ترابَ أكثرَ من مليونَي شجرةِ زيتونٍ مبارَكةٍ.
إذْ تشكّلُ قِطَعُ الصابونِ رسالةَ المدينةِ العتيقةِ، التي تُلَملِمُ جمالَها وزَيتَها واقتصادَها من بينِ أحضانِ جبلَي “جرزيم وعيبال”، والتي تَشمُّ في حَواريها سنواتٍ غائرةً في التاريخِ الإنساني .
ويرجعُ تاريخُ صناعةِ الصابونِ في نابلُسَ إلى أكثرَ من ألفِ عامٍ بحسبِ موسوعةِ الويكيبيديا العالمية، مُستَدِلّينَ على ذلكَ بالكثيرِ من الكتاباتِ التي دَوّنَها الرحالةُ والمؤرِّخونَ القدماءُ؛ ومنهم (شمسُ الدّينِ محمدٌ بنُ أبي طالبٍ الأنصاري)؛ “المَقدسي”، الذي تحدّثَ عن صناعةِ الصابونِ النابلسيّ؛ وكيف كان يُحمَلُ من المدينةِ بالقوافلِ التجاريةِ، والحملاتِ العسكريةِ، والمارِّينَ فيها إلى سائرِ بلادِ اللهِ.
يُعدُّ الصابونُ النابلسيُّ سِرَّ جمالِ المرأةِ العربيةِ؛ فهو طبيعيٌّ تمامًا؛ وخالٍ من الموادِ الكيماويةِ؛ ويُصنَعُ من زيتِ الزيتونِ الصافي؛ الذي يعدُّ الزيتَ رقم (1) في العالمِ؛ والذي يتميزُ برَغوَتِه الكثيفةِ،؛ وتطهيرِه المضمونِ، غنيٌّ بفيتامينِ “ه”، يزيلُ الخلايا المَيتةَ من الجلدِ؛ ويفتحُ البشرةَ، كما ويعطي للبشرةِ نعومةً كبشرةِ الأطفالِ؛ ويعملُ على تنشيطِ الدورةِ الدمويةِ؛ وبالتالي يذيبُ الشحومَ المُترَسِّبةَ على المفاصلِ؛ ويحافظُ على حيويةِ ونضارةِ الجسمِ والبشرةِ
رمزًا للثروةِ
كما يَرجعُ تاريخُ تأسيسِ أولِ مصانعَ للصابونِ إلى القرنِ العاشرِ الميلادي؛ إذْ شكّلتْ التجارةُ مع البَدوِ في نابلُسَ والخليلِ عنصرًا مُهِمًّا وضروريًّا؛ حيثُ كان البَدوُ هم الوحيدونَ القادرونَ على تزويدِهم بالصودا الكاويةِ اللازمةِ لصناعةِ الصابونِ، وكان يتِمُ إرسالُ الصابونِ إلى دمشقَ؛ ليُستخدَمَ في المسجدِ الأموي؛ كما كان يُصَدَّرُ إلى العديدِ من البلدانِ، وجُزرِ البحرِ الأبيضِ المتوسطِ.
استَحوَذتْ كُبرى العائلاتِ الثريةِ في المدينةِ على مصانعِ الصابونِ الرئيسةِ؛ فامتلاكُ مصنعٍ للصابونِ كان رمزًا للثروةِ، والوَجاهةِ والتمَدُّنِ في مدينةٍ تُشكِّلُ فيها صناعةُ الصابونِ واحدةً من الركائزِ الاقتصاديةِ العريقةِ؛ ومن أشهرِ الأنواعِ “المصري”، و”الرنتيسي”، و”كنعان”، و”الشكعة”، و”النابلسي” و”فطاير.
أمّا في زمنِ الاحتلالِ الصليبي؛ فقد حَظيَتْ نابلُسُ بمكانةٍ مُهِمّةٍ؛ لشُهرتِها بصناعةِ أهمِّ أنواعِ الصابونِ؛ حتى إنّ هذه الصناعةَ أصبحتْ حِكرًا على الملكِ؛ فهو المسؤولُ عنها، ولا يُسمَحُ لأيٍّ من أصحابِ المصانعِ بمزاولةِ الصنعةِ إلّا بعَقدٍ يمنحُه لهم مَلكُ “بيتِ المَقدسِ”؛ مُقابِلَ مَورِدٍ ماليٍّ دائمٍ من أصحابِ المصانعِ. ولم يكتفِ الصليبيونَ بذلكَ؛ بل اجتهدوا في نَقلِ الصنعةِ إلى أوروبا، وتأسَّستْ مصانعُ الصابونِ من زيتِ الزيتونِ في “مرسيليا”؛ وكانت هذه المصانعُ تُحضِّرُ الصابونَ بطريقةٍ مشابهةٍ لطريقةِ تحضيرِ الصابونِ النابلسي.
وبحسبِ مركزِ المعلوماتِ الفلسطينيّ؛ فقد تطوّرتْ صناعةُ الصابونِ بشكلٍ كبيرٍ في نابلسَ؛ بعدما تمَّ تصديرُه إلى دولِ الشرقِ الأوسطِ وأوروبا في القرنِ الرابع عشرَ؛ وقيلَ وقتَها “إنّ المَلكةَ إليزابيث الأولى، أشادتْ بهذا النوعِ من الصابونِ، وفي القرنِ التاسع عشرَ الميلادي؛ شهِدتْ هذه الصناعةُ في نابلسَ توَسُّعًا كبيرًا؛ حتى أصبحتْ من أهمِّ مراكزِ صناعةِ الصابونِ في الهلالِ الخصيبِ، وفي عامِ (1907) بلغَ عددُ المصانعِ (30) مصنعًا؛ تُنتِجُ قرابةَ خمسةِ آلافٍ طنٍ سنويًّا، وكانت نابلسُ وحدَها تنتجُ أكثرَ من نصفِ إنتاجِ فلسطينَ من الصابونِ.
أمّا في عامِ (1830) فقدْ وصفَ الاقتصاديُّ الإنجليزيُّ السير “جون بورينج”:” إنّ صابونَ نابلُسَ مُحترمٌ من الكثيرينَ في بلادِ الشامِ”، وكتبَ عنه المؤرِّخُ السوري “محمد كرد علي” عامَ (1930) :” إنّ صابونَ نابلُسَ هو الأكثرُ جَودةً والأكثرُ شهرةً في ذلكَ الوقتِ؛ فجَودَتُه ليستْ عاديةً؛ وهذا هو سِرُّ إنتاجِه الجيّدِ حتى الآنَ”.
تَدَهورُ الصناعةِ
وفي منتصفِ القرنِ العشرين؛ بدأَ تَدهورُ صناعةِ الصابونِ النابلسي، كانت بدايتُها مع زلزالِ عامِ (1927)؛ الذي دمّرَ الكثيرَ من البلدةِ القديمةِ في نابلس، أيضًا انتَكستْ صناعةُ الصابونِ في نابلُسَ بهزَّةٍ قويةٍ بِسببِ عدمِ حمايةِ الاسمِ التجاري؛ وهو ما شجّعَ العديدَ من أصحابِ المصانعِ التجاريةِ على تقليدِ علامةِ الصابونِ؛ ثُم جاءتْ الضرائبُ الجمركيةُ التي فرضتْها الحكومةُ المصريةُ؛ بالتعاونِ مع حكومةِ الانتدابِ البريطانيّ؛ وتلَتْها رسومُ الاستهلاكِ التي فرضتْها الحكومةُ السوريةُ على الصابونِ النابلسي، وبعدَ الاحتلالِ الإسرائيليّ؛ تعرّضتْ نابلسُ للكثيرِ من الهجماتِ من قِبلِ القواتِ الإسرائيليةِ المحتلةِ؛ خاصةً في أحداثِ الانتفاضةِ الثانيةِ؛ حيثُ دمّرتْ الكثيرَ من مصانعِ الصابونِ والكثيرَ من المباني الأثريةِ في نابلسَ؛ ولم يتَبقَّ حاليًّا إلّا عددٌ قليلٌ جدًّا منها.
“عبد المجيد سلامة”، والذي مازال يعملُ في مصبنةِ “طوقان ” وسطَ مدينةِ نابلسَ، والتي تعملُ منذُ حوالي (150) عامًا؛ حافظتْ خلالَها على صناعةِ الصابونِ النابلسي إلى يومِنا هذا؛ بذاتِ المكوِّناتِ والأدواتِ مع تغييراتٍ طفيفةٍ، يقولُ لـ” السعادة”:” يتكوّنُ الصابونُ النابلسي من: زيتِ زيتونٍ بنسبةِ (82%) تقريبًا، هيدروكسيد الصوديوم بنسبةِ ( 13%) تقريبًا.
ويضيفُ: في مراحلِ الإنتاجِ الأولى؛ كان يوضَعُ المزيجُ القلوي “الشيد” في جُرنٍ حَجريّ؛ ثُم يُدّقُّ بـ “مهتاج” خشبيٍّ حتى يصبحَ مسحوقًا ناعمًا، وفي هذا الوقتِ يسارعُ العاملُ في المَصبنةِ لِفَرشِ “الشيد” في حوضٍ قليلِ العُمقِ؛ ويُنقَعُ في الماءِ حتى يجِفَّ، وبعدَ ذلك تًطحَنُ المادةُ طحنًا ناعمًا ليُخلطَ.. وبعدَ الانتهاءِ من المَسحوقينِ يضعُهما في صفٍّ من أحواضِ التخميرِ؛ وهي ثلاثةٌ إلى ستةٍ في العادةِ، مرتفعةٌ عن الأرضيةِ.
وتأتي بعدَ ذلكَ مرحلةُ صبِّ الماءِ الساخنِ من “مبزل” يقعُ في أسفلِ القِدرِ النحاسيةِ؛ لأنَّ الزيتَ يبقَى في الأعلى، وعندما يمتصُّ المحتوى الكيماوي للمزيجِ؛ يجري تقطيرُه ثُم قَطرةُ في مجموعةٍ مماثِلةٍ من الأحواضِ؛ أدنَى من نظائرِها وأعمقُ منها، وتُكرَّرُ هذه العمليةُ حتى وصولِ المحتوى الكيماوي للماءِ إلى درجةٍ مُعينةٍ من القوةِ؛ ثُم يضافُ هذا الماءُ إلى القِدرِ النحاسيةِ؛ كي يمتصَّ الزيتُ الموادَ الكيماويةَ، وتنتهي الدورةُ، وكانت هذه الدورةُ تتكرَّرُ عشراتِ المرّاتِ؛ متوسطُها (40) مرّةً، بينما يحرَّكُ سائلُ الصابونِ الساخنُ في القِدرِ باستمرارٍ بواسطةِ “الدكشاب”.
ورقٌ رقيقٌ
وبعدَ تركِ الصابونِ ليلةً كاملةً؛ تبدأُ عمليةُ البسطِ في اليومِ التالي؛ حيثُ يقومُ عاملُ البسطِ بواسطةِ دَلوٍ خاصٍّ يملأُه بالصابونِ اللزجِ (الهلامي)؛ ويفرِغُه في عُلبةِ البسطِ؛ ويكرّرُ العمليةَ حتى تمتلئَ عُلبةُ البسطِ، فيحملَها عاملٌ آخَرُ على كتفِه؛ وينقلَها إلى الطابقِ السفلى الذي يسمّى “المفرش”؛ ثم يأخذُها عاملٌ آخَرُ؛ ويسكبُها على أرضِ المفرشِ (المبسط)؛ بعدَ أنْ تكونَ أرضُ المفرشِ قد غُطّيَتْ بوَرقٍ رقيقٍ؛ حتى لا يلتصقَ الصابونُ بالأرضِ _قديمًا كانوا يفرشونَ الأرضَ بشيدٍ بدَلًا من الورقِ_، ثم يقومُ رئيسُ العملِ بتسويةِ سطحِ الصابونِ “بالمالج”؛ وتقديرِ سُمكِه بالشوكةِ.

ويواصلُ.. وبعدَ اكتمالِ علميةِ البسطِ؛ يُتركُ الصابونُ حتى يجِفَّ؛ ويحتاجَ ذلك إلى عدّةِ ساعاتٍ في الشتاءِ؛ ويومٍ كاملٍ في الصيفِ؛ وبعد ذلك يقومُ عمالُ التقطيعِ بعمليةِ بشرِ سطحِ الصابونِ؛ حتى يصبحَ أملسًا، ثم يُتركَ بعدَ ذلك لتحديدِ طولِ القطعةِ وعرضِها على أطرافِ الفرشةِ؛ باستعمالِ الزاويةِ والفرجارِ، ثم تُغمَر “الدوبارة” بمحلولٍ أحمرَ يسمَّى “غمرة”؛ لإظهارِ خطوطٍ متوازيةٍ أفقيةٍ وعموديةٍ.
وبعدَ بسطِ الصابونِ؛ يقومُ عاملٌ بختمِ وسطِ المربعاتِ؛ باستعمالِ الخاتمِ المُثبّتِ على شاكوشٍ خشبيٍّ يُظهِرُ ماركةَ الصابونِ؛ ويقومُ عاملٌ أو عاملانَ بختمِ كلِّ مربّعٍ بختمٍ مُستقِلٍّ، وبعدَ عمليةِ الختمِ يقومُ بتقطيعِ الصابونِ؛ وذلك بغَرزِ السكينِ في الخطوطِ الحمراءِ؛ وسحبِ السكينِ حتى تكتملَ عمليةُ التقطيعِ طولًا وعرضًا؛ ويُتركُ الصابونُ على أرضِ المفرشِ لمدّةِ يومٍ أو يومينِ؛ ثم يقومُ عمالُ التقطيعِ برفعِ الصابونِ عن الأرضِ، ويرتَّبُ الصابونُ في أرضِ المفرشِ على شكلِ رصَّاتٍ يقال لها صوامعُ، كلُّ صومعةٍ تضمُّ حوالي (24) قطعةً؛ ثم تبدأُ عمليةُ التشبيكِ بأشكالٍ مخروطيةٍ ترتفعُ أكثرَ من ثلاثةِ أمتارٍ، تسمّى “تنانير”؛ لتسهيلِ عمليةِ التجفيفِ، ويُتركُ الصابونُ لمدةِ شهرٍ أو أكثرَ؛ حتى يصبحَ جاهزًا للاستخدامِ.
علامةٌ فارقةٌ
في حين، يقولُ نائل القبج :”إنّ الصابونَ الذي نقومُ بتصنيعِه، وهو النوعُ ذو اللونِ الأبيضِ، المصنوعُ من زيتِ الزيتونِ (100) بالمائة، يستخدمُ في أغراضِ الاستحمامِ والغسيلِ معًا، وكان الأطباءُ منذُ بدايةِ انتشارِه ينصحونَ به المرضى؛ لعلاجِ بعضِ الأمراضِ الجلديةِ وتجميلِ البشرةِ”.
ويضيفُ: “إنّ منتجاتِ هذا المصنعِ؛ كان يتمُ تصديرُها إلى العديدِ من الدولِ العربيةِ (كالأردن ومصر ولبنان) وغيرِها منذُ فترةِ السبعيناتِ؛ بالإضافةِ أيضًا إلى أننا نقومُ بالتصديرِ إلى دولٍ أوروبيةٍ مثلَ( فرنسا وإيطاليا وسويسرا)، مشيرًا إلى أنّ المصنعَ بصدَدِ التصديرِ إلى الولاياتِ المتحدةِ قريبًا، ومن أشهرِ الماركاتِ التي يقومُ بإنتاجِها هذا المصنعُ؛ هي “صابونُ المفتاحين”، و”صابون السيفين” و”صابون الشاكوشين”.
ويتابعُ: “إنّ تصنيعَ الصابونِ النابلسي في هذا المصنعِ؛ يتمُ وفقَ معاييرَ معتمدَةٍ لدَى مؤسسةِ المواصفاتِ القياسيةِ الفلسطينيةِ، وكذلك الجمعيةِ العلميةِ الملكيةِ الأردنيةِ، ولذلكَ حصلتْ منتجاتُنا على شهاداتِ جودةٍ؛ وهو أمرٌ غيرُ معهودٍ، وعلامةٌ فارقةٌ بالنسبةِ لتاريخِ الصناعاتِ التقليديةِ. ويشيرُ “القبج” إلى أنّ انتاجَ المصنعِ في السابقِ وصلَ إلى ( 650) طنًّا سنويًّا؛ ولكنْ بعدَ الانتفاضةِ الأولى والثانيةِ؛ وفرضِ قواتِ الاحتلالِ الإسرائيلي القيودَ على التحركاتِ من خلالِ الحواجزِ، وتفتيشِ الشاحناتِ، وتعرّضِ البضاعةِ للتلفِ؛ انخفضَ الإنتاجُ بمقدارِ النصفِ تقريبًا؛ ليصلَ إلى ( 300) طنٍّ سنويًّا ويتمُ تصديرُ ثُلثَي الكميةِ إلى الأردنِ، والباقي يسوّقُ محليَّا.
وبحسبِ أرقامِ غرفةِ تجارةِ وصناعةِ نابلُسَ؛ يبلغُ عددُ المصابنِ المسجّلةِ رسميًّا في الغرفةِ (28) مصبنةً حتى منتصفِ عامِ (2022)؛ ولكنّ غالبيتَها متوقّفةٌ عن الإنتاجِ منذُ سنواتٍ؛ وبعضُها الآخَرُ قلّصَ إنتاجَه بشكلٍ كبيرٍ؛ بسببِ نقصِ الطلبِ على هذا النوعِ من الصابونِ؛ مع ازديادِ المنافسةِ من قِبلِ الصابونِ الصناعي.