
عندما تتعلقُ الطبيعةُ بالمرأةِ؛ يتحوّلُ الحديثُ عنها عيبًا؛ لا ينبغي المُجاهَرةُ به، أو وَصْمةً يجبُ نَفيُها، أو تفاهةً لا تستوجِبُ البحثَ والتحليلَ والفهمَ؛ على الرغمِ من كافّةِ الموضوعاتِ النسائيةِ المرتبطةِ بنساءِ الأرضِ كافّةً؛ مَهما كان لونُها أو دِينُها أو شكلُها.
سِنُّ اليأسِ واحدةٌ من هذه المواضيعِ التي تُعَدُّ عيبًا في ظِلِّ تدَنِّي الوَعيِ؛ بالتأثيرِ الذي يُضفيهِ انقطاعُ الطمثِ على حياةِ النساءِ؛ رغمَ حقيقةِ أنَّ ما يَقرُبُ من نصفِ سكانِ العالمِ مَرَرْنَ -أو ما زِلنَ- بهذا التحوّلِ البيولوجي، ليضربَ الفئةَ العمريةَ _التي من المُرجِّحِ أنْ تنتقلَ خلالَها النساءُ إلى مناصبَ قياديةٍ عُليا_ ضربةً قاتلةً في صمتٍ منهُنَّ، خشيةَ الوَصمِ والسخريةِ .
في مَطلعِ العامِ الحالي؛ اعتمدَ صندوقُ الأُممِ المتحدةِ للسكانِ” مُسمَّى “سِنِّ التجدد”؛ بَديلاً من “سِنِّ اليأس” لهذه المرحلةِ العُمريةِ وأعراضِها، وأعلنَ الصندوقُ أنّ غالبيةَ النساءِ يَمِلنَ إلى إلغاءِ هذا المُسمَّى اليائسِ؛ واستبدالِ آخَرَ أكثرَ إيجابيةً به؛ لتعريفِ هذه المرحلةِ الجسديةِ والنفسيةِ من حياةِ أيَّةِ امرأةٍ، وأعلنَ الصندوقُ أنْ “لا مزيدَ من اليأسِ؛ بل مزيدًا من التجدُّدِ.
التظاهرُ بالطبيعيةِ
ووفقًا لدراسةٍ من جمعيةِ الغُدَدِ الصمَّاءِ؛ فإنّ واحدةً من كُلِ (4) نساءٍ ستُعاني من أعراضٍ خطيرةٍ لانقطاعِ الطمثِ، وتستمرُّ بينَ (7 و14) عامًا، ويلجأُ معها بعضُهُنَّ إلى العلاجِ التعويضي بالهرموناتِ، والذي يَجعلُهُنَّ أكثرَ عُرضة للإصابةِ بسرطانِ الثدي، أو استبدالُه بعلاجاتٍ بديلةٍ مِثلَ الوَخزِ بالإبرِ، أو الأستروجينِ النباتي، وكافةِ العلاجاتِ التي لم تَثبُتْ فعاليتُها، وعندَ إيقافِها ستُعادُ معاناةُ المرأةِ مع أعراضِ “سنِّ اليأسِ”.
أم عمر “55 عامًا”، تقولُ لـ “السعادة”:” على الرغمِ من أني إنسانةٌ متعلّمةٌ؛ ولدَيَّ مكانتي المجتمعيةُ، وثقافةٌ واطِّلاعٌ على الكثيرِ من المعلوماتِ؛ إلّا أنني بقيتُ شهورًا لفَهم ما كنتُ أتعرَّضُ له؛ حيثُ كنتُ أستيقظُ من النومِ ليلاً؛ وأنا غارقةٌ في عَرَقٍ غزيرٍ على الرغمِ من طقسِ الشتاءِ الباردِ.
وتضيفُ: كنتُ أقنِعُ نفسي أنّ الغطاءَ رُبما كان ثقيلاً أكثرَ ممّا ينبغي، فأشعرُ بسخونةٍ عارمةٍ؛ تتدفّقُ فُجأةً صوبَ صدري ورأسي؛ بينما أقومُ بمَهامّي الوظيفيةِ؛ فأحاولُ التظاهرَ بأنَّ الأمورَ طبيعيةٌ؛ لكنَّ حبّاتِ العَرقِ التي تسيلُ تفضحُ ما يَحدثُ معي.
وتضيفُ: ما زادَ الطينَ بِلَّةً نَوباتُ التوتُرِ العارمةُ التي تُصيبني عندَ أيِّ نقاشٍ؛ لو كان عابرًا مع أبنائي أو زوجي؛ وسَيلُ الاتهاماتِ الجارفةِ التي أقذِفُها على الجميعِ؛ سواءً داخلَ المنزلِ أو في العملِ؛ دونَ سابقِ إنذارٍ أو تراكماتٍ؛ حتى باتَ الجميعُ يتَّهِمُني بتَغيُّر شخصيتي ومزاجي.
وتُتابعُ: تتوالَى نوباتُ التوتُرِ التي دفَعتْني للبحثِ عبرَ الإنترنت عن تفسيرِ ما يَحدثُ معي؛ لأكتشفَ أنَّ الأمرَ مُرتبطٌ بسِنِّ اليأسِ، أوِ انقطاعِ الطمثِ، والحقيقةُ أني عندما عرفتُ السببَ؛ خجلتُ من تبريرِ ما يَحدثُ معي للمحيطينَ؛ خاصةً زميلاتي بالعملِ ، فَسِنُّ اليأسِ كلمةٌ مؤلمةٌ لجميعِ النساءِ.
أمّا سهام (42 سنة)، ظلّتْ تداهِمُها مجموعةٌ من الأعراضِ المتعِبةِ؛ وهي لا تُدرِكُ أنّ ما تتعرضُ له ما هو إلا هبّاتٌ ساخنةٌ؛ ولأنَّ الهبّاتِ الساخنةَ أو الحراريةَ المرتبطةَ بسِنِّ انقطاعِ الدورةِ الشهريةِ _الذي يَعرفُ الجميعُ اسمَه ومَوقِعَه_ لكنّ أحدًا لا يعرفُ ما يجري في داخلِه، ولا ينبغي السؤالُ عمّا يجري هناكَ، ولأنَّ والدتَها، ومن قبلِها جدَّتَها مَرَّتا بمَتاعبِ ما يسمّى “سنُّ اليأس”؛ من دونِ إفصاحٍ أو طلَبِ عَونٍ أو دعمٍ أو نصيحةٍ من أهلِ الاختصاصِ؛ فقدْ طالَ تَجاهلُها مُعاناتِها؛ لأنها ستَمرُّ كما أخبرَها الجميعُ.
مَصدرُ حَرَجٍ
وتتابعُ: لكنّ المعاناةَ فاقتْ الحدودَ؛ وأصبحتْ مصدرَ حرَجٍ مستمرٍّ؛ حتى زوجي بدأَ يَسخرُ من هبّاتي الساخنةِ، مُعتقِدًا أنّ السخريةَ من شأنِها أنْ تُخفِّفَ عني المُعاناةَ؛ ولولا لجوئي بعدَ أشهُرٍ طويلةٍ لطبيبِ أمراضِ نساءٍ؛ بعدَ بحثٍ على شبكةِ الإنترنت، التي مكّنتْني من الحصولِ على شرحٍ مُبسّطٍ مَبدئي لِما أمُرُّ به، وحصولي على علاجٍ هرموني تعويضي؛ لتَضرَّرتْ حياتي الأسريةُ والمِهنيةُ والاجتماعيةُ بشكلٍ كبيرٍ.
منوِّهةً: إنّ أكبرَ مُعضِلةٍ تُواجِهُها النساءُ في هذه المرحلةِ العمريةِ_ التي يحلو للإعلامِ والطبِّ والقاصي والداني؛ أنْ يُسمِّيها “سنّ اليأس”_ هو فَهمُ ما يَحدثُ لهنَّ، وقَبولُه والحصولُ على الدعمِ الاجتماعي والطبي المناسبِ، إضافةً إلى تَفَهُمِ المُحيطينَ لاسيَّما الذكورُ.
في دراسةٍ منشورةٍ بدَوريةِ “منوبوز” ،التي تَصدرُ عن “جمعيةِ انقطاعِ الطمثِ في شمالَ أميركا”، عن أكثرِ الآثارِ المزعجةِ الناجمةِ عن هذه المرحلةِ جاءَ: إنّ الفروقَ الاجتماعيةَ والثقافيةَ لها أثرٌ كبيرٌ في تعاملِ المجتمعاتِ مع آثارِ انقطاعِ الطمثِ لدَى النساءِ؛ ففي المجتمعاتِ التي يتمُ تبجيلُ التقدّمِ في العمرِ، وتحظَى المرأةُ الأكبرُ سِنًّا بمكانةٍ أفضلَ، واحترامٍ أكثرَ؛ تكونُ أعراضُ انقطاعِ الطمثِ أقلَّ إزعاجًا للنساءِ؛ لأنّ المجتمعَ يكونُ على قدرٍ من التفَهُمِ والقبولِ والتعاطفِ؛ ما يجعلُ الأمرَ أكثرَ سهولةً؛ أمّا المجتمعاتُ التي تتعاملُ معَ التقدّمِ في العمرِ _لاسيّما للنساء_، باعتبارِه نقطةَ ضعفٍ، أو مصدرَ حرَجٍ وشيخوخةٍ؛ تستوجِبُ الحجبَ والسّترَ بعيدًا من الأعيُنِ؛ فإنّ الأعراضَ تكونُ أخطرَ وأفدَحَ وأكثرَ ألمًا للمرأةِ. ويكفي مصطلحُ “سِنّ اليأس” الذي تعتمِدُه ثقافاتٌ عِدّةٌ.
رائدة أبو عبيد، أستاذُ علمِ النفسِ التنموي، ورئيسُ قسمِ علمِ النفسِ بجامعةِ الأقصى، تقولُ:” تمرُّ معظمُ السيداتِ في النصفِ الثاني من سنِّ الأربعينَ على الأغلبِ بمرحلةٍ انتقاليةٍ في الحياةِ؛ تتعلّقُ بتراجُعِ الخصوبةِ والقدرةِ الإنجابيةِ؛ وهو ما يخلّفُ بعضَ الآثارِ النفسيةِ النابعةِ عن الشعورِ ببعضِ الأعراضِ الصحيةِ، والتغيّراتِ البيولوجيةِ واليأسِ بوَعيٍّ أو دونَ وعيٍّ، وحالةٍ من التخوفاتِ المتعلقةِ بانقضاءِ عُمرِ الشبابِ؛ وهو ما يُخلّفُ في بعضِ الأحيانِ الاكتئابَ والعزلةَ؛ وهي الحالةُ العامةُ التي اعتادَ البعضُ أنْ يُطلقَ عليها “سنّ اليأسِ”.
سِنُّ النُّضجِ
لكنّ هذا المُصطلَحَ لم يكنْ يومًا مَحلَّ إجماعٍ علميّ أو اجتماعي؛ بل كان على الدوامِ مَحلَّ خلافٍ ومعارَضةٍ شديدةٍ من النشطاءِ والحقوقيينَ؛ بالتوقُفِ التامِّ عن استخدامِه؛ لِما يَعدُّونَه إساءةً للمرأةِ، وفي المقابلِ يطرحُ كثيرونَ مصطلحاتٍ كثيرةً بديلةً أبرزُها: سِنُّ العطاءِ، وسِنُّ الجمالِ، وسِنُّ النضجِ، والسنُّ الذهبي، وسِنُّ التجدُّدِ، وغيرَها من المُسمَّيَاتِ.
وتؤكدُ “أبو عبيد” أنّ النظرةَ تُجاهَ النساءِ في منتصَفِ العمرِ؛ كانت في كثيرٍ من الأحيانِ نظرةً ازدِرائيةً؛ فقد تمَّ تصويرُ مرحلةِ انقطاعِ الطمثِ بشكلٍ سيّئٍ، ووَصْفُ ما تُعاني النساءُ منه خلالَ هذه المرحلةِ بـ”مرض النقص”؛ وبالتالي هناكَ صورةٌ نَمطيةٌ مبنيةٌ للنساءِ في الثقافةِ المجتمعيةِ.
وتضيفُ: يميلُ الناسُ إلى نشرِ الصوَرِ النمطيةِ في محاولةٍ منهم لتصنيفِ سلوكياتِ وأفكارِ الآخَرينَ، ففي حالةِ انقطاعِ الطمْثِ؛ أو ما يُعرفُ في بعضِ المجتمعاتِ بـ”سنّ اليأس” مثلاً يمكِنُ القولُ إنّ المجتمعَ _ولِعَدمِ قدرتِه على فهمِ الأعراضِ المصاحبةِ لانقطاعِ الطمثِ_ قرّرَ وَصْمَ النساءِ كافةً في مرحلةِ مُنتصَفِ العمرِ، مُعتبِرًا المرأةَ في هذه المرحلةِ كائنًا شديدَ التوتُرِ، ومضطّربًا، ومُتقلّبَ المزاجِ، ويبحثُ عن المشكلاتِ، وهي صورةٌ نمطيةٌ منتشرةٌ بينَ الفئاتِ العمريةِ كافةً، ولم يتوقفْ الأمرُ عندَ هذا الحدِّ؛ فقدْ أثّرتْ هذه الوصمةُ على تصوُّرِ النساءِ أنفُسِهِنَّ لطبيعةِ حياتِهِنَّ في تلكَ المرحلةِ.
وَصْمةُ المجتمعِ
وتُتابعُ أستاذُ علمِ النفسِ بجامعة “بيتسبرغ” الأميركيةِ:” حلَّلتُ فيه وجهةَ نظرِ أكثرِ من (500) سيدةٍ، بينَ عُمرِ (42 و50)، حولَ انقطاعِ الطمثِ، وتوَقُّعاتِهنَّ عن التأثيرِ النفسي لهذه المرحلةِ؛ فأوضحتْ النتائجُ أنّ تجاربَ السيداتِ كانت مطابقةً لتوقّعاتِهِنَّ، فالسيداتُ اللواتي توَقّعنَ أنْ يكونَ لهذه المرحلةِ تأثيرٌ سلبيٌّ عليهِنّ؛ تَعرّضْنَ لأعراضٍ سلبيةٍ أكثرَ حِدّةً، بعكسِ السيداتِ اللواتي كانت لدَيهِنّ توَقّعاتٌ إيجابيةٌ، فقد أظهرْنَ مستوى أقلَّ من الاكتئابِ وبقيةِ الأعراضِ المصاحِبةِ لانقطاعِ الطمثِ، وكانت هذه النتائجُ مطابِقةً لنتائجِ أبحاثٍ أخرى في السياقِ نفسِه.
وتواصِلُ: إنّ محاولةَ التنَكُّرِ، أو صَرْفِ الانتباهِ عن الأعراضِ المستمرّةِ لانقطاعِ الطمثِ في بيئةِ العملِ أو البيتِ؛ قد تكونُ مُرهِقةً؛ وتؤثّرُ بالسلبِ على الثقةِ بالنفسِ؛ لِذا تزدادُ حِدّةُ الخجلِ من طلبِ الدعمِ في أماكنِ العملِ عندَ اللائي يعانينَ من أعراضِ انقطاعِ الطمثِ قبلَ سنّ (45) عامًا، وتصِلُ النسبةُ حتى (63%) من النساءِ اللائي يَتجَنَّبنَ طلبَ المساعدةِ؛ مقابلَ (43%) فقط ممّن مرَرْنَ بأعراضِ سنِّ اليأسِ، بعد سنِّ الخمسين؛ ما يثيرُ بعضَ المخاوفِ من أنَّ العديدَ من النساءِ ما زلنَ يغادِرْنَ سوقَ العملِ؛ لأنهنَّ يكافِحنَ مع أعراضٍ قويةٍ كالهبّاتِ الساخنةِ، والقلقِ والتعبِ، فيَنسَحِبنَ لِشُعورِهنّ بأنهنّ غيرُ مدعوماتٍ في مكانِ العملِ.