قيمتُكم كبيرةٌ
زارَ وزيرُ الصناعةِ _في واحدةٍ من الدولِ المتقدِّمةِ_ أحدَ المصانعِ؛ فَلفَتَ انتباهَه عاملٌ يُعَبِّئُ المساميرَ في عُلبٍ مصنوعةٍ من الكارتونِ؛ وهو يُغنّي.. ووَجهُه يطفحُ بعلاماتِ السعادةِ والسرورِ؛ وكأنه في ليلةِ فَرَحٍ.
اقتربَ منه الوزيرُ وسألَهُ مُستغربًا سعادتَه: ماذا تفعل يا هذا؟!
فأجابَ: أصنعُ الطائراتِ!
فرَدَّ عليه الوزيرُ متعجِّبًا: طائراتٌ؟!
فَردَّ الرجلُ بكُلِّ هدوءٍ وثِقةٍ بالنفسِ: نَعمْ سيدي الوزير طائراتٌ، هذه الطلبيةُ لشركةِ تصنيعِ طائراتٍ، والطائراتُ التي نسافرُ عليها لا يُمكِنُ لها أنْ تطيرَ من دونِ هذه المساميرِ الصغيرةِ!
هذا العاملُ البسيطُ كشفَ لنا سِرَّ قيمَتِنا ونظرتِنا لأنفُسِنا على وجهِ هذه الحياةِ، وبَيّنَ لنا أحدَ أسبابِ سعادتِنا.
ثمَّةَ فرقٌ كبيرٌ بينَ مَن يرَى نفسَه “جامعَ المساميرِ”، وبينَ مَن يرى نفسَه شريكًا في صُنعِ الطائرات.
فرقٌ كبيرٌ بينَ من لا يرَى من وظيفتِه إلّا الأجرَ الماديَّ الذي يَجنيهِ، وبينَ من يرَى الأثرَ الذي يترُكُه.
أنتَ لستَ مُجردَ كَنّاسٍ للطريقِ؛ أنتَ تساهمُ في تجميلِ وجهِ المدينةِ.
أنتَ لستَ مُجَرّدَ خيّاطٍ؛ أنتَ تَهَبُ الناسَ لَمساتٍ من الأناقةِ والجمالِ.
أنتَ لستَ مُجرّدَ مُدرسِ أولادٍ؛ أنت صانعُ أجيالٍ عظيمٌ لا مَثيلَ لكَ.
أنتَ لستَ مُجرّدَ طبيبٍ؛ أنتَ تُخفّفُ جبالًا من آلامِ البشرِ.
أنتِ لستِ مُجرّدَ رَبّةِ أسرةٍ، أنتِ أولُ وأهمُّ مُربّيةٍ، فليس ثمّةَ أهمُّ من صناعةِ الإنسانِ.
كلُ من لا يرَى من عملِه إلّا الأجرَ الذي يتقاضاهُ؛ هو إنسانٌ أعمَى لا يرَى، وهناكَ أثرٌ يجبُ ألّا يغيبَ عن أذهانِنا؛ وهو الذي يجعلُ العملَ رسالةً؛ ويُعطي الإنسانَ قيمتَه، وقيمةُ الإنسانِ الحقيقةُ هي الطريقةُ التي ينظرُ بها إلى نفسِه؛ وليستْ الطريقةَ التي ينظرُ بها الآخَرون إليه.
مرّتْ علينا سنواتٌ طويلةٌ؛ طَوَتْها الأيامُ والتجارِبُ، خسِرْنا فيها أغلَى الأثمانِ، خسِرْنا فيها أقاربَ وأصحابًا وأصدقاءَ وجيرانًا، مرّتْ علينا وعليكم هذه السنواتُ؛ وقد كانت قلوبُنا كالحجارةِ؛ بل أشدُّ قسوةً؛ وكأنّنا نتعاملُ مع نفوسٍ ليس لها قيمةٌ.
قبلَ أيامٍ رأيتُ مَشاهدَ عظيمةً؛ تضعُ أصحابَها في مكانٍ مرموقٍ، يَغبِطُهم فيها الساجدونَ والساجداتُ، الراكعونُ والراكعاتُ، والخاشعونُ والخاشعاتُ، هذه المَشاهدُ العظيمةُ هي صورةٌ لِخَمسِمائةٍ من صَفوةِ الحفاظِ؛ سرَدوا القرآنَ الكريمَ على جلسةٍ واحدةٍ؛ استمرّتْ من الفجرِ وحتى ساعاتِ المساءِ.
هذه المَشاهدُ تؤكّدُ على أنّ قيمةَ الإنسانِ كبيرةٌ فِعلاً؛ _لو هو آمَنَ بذلكَ_، هذه النفسُ التي عظَّمها القرآنُ الكريمُ ولمَّعتْها السُّنةُ النبويةُ.
عِش في الدنيا بِقيمَتِكَ الحقيقةِ، القيمةِ التي رسَّخَها الإسلامُ العظيمُ، وعَمَّقَها الفَهمُ القويم.
عِشْ حياتَكَ؛ فقَيمَتُكَ كبيرةٌ.