
تحقيق: السعادة
الكثيرُ من الأهالي حصلَ أبناؤهم على معدّلاتٍ في الثانويةِ العامةِ؛ ولم يتمكّنوا من الالتحاقِ بالجامعاتِ؛ لكثرة الأعباء والمسؤوليات فالأهل غير قادرين على سدَّ الاحتياجاتِ الأساسيةَ، فيقفُ الأهلُ أمامَ مشكلةٍ كبيرةٍ عاجزينَ عن حلِّها، رسومٌ جامعيةٌ.. مصاريفُ.. مواصلاتٌ.. كتبٌ.. ملابسُ.. احتياجاتٌ ومتطلباتٌ أخرى؛ فهل يعني هذا أنْ لا يسجّلُ الطالبُ في الجامعةِ؟ لماذا لا نشجّعُ أبناءَنا على المساعدةِ لو بالقليلِ لتوفيرِ متطلباتِهم الخاصةِ؛ ليساهِموا في التخفيفِ على الأهلِ من مِطرقةِ المصاريفِ المفتوحةِ؟ وما هي البدائلُ ؟ وكيف يمكنُ أنْ يساعدَ الأبناءُ آباءَهم وأمهاتِهم؟
ضيق الحال
التقتْ “السعادة” بمجموعةٍ من الطلبةِ الجامعيّينَ؛ حيث يعتمدُ “ميسرة الأدهم” على راتبِ والدِه القليلِ؛ في تسديدِ رسومِه ومصاريفِه الجامعيةِ؛ ويعدُّ أنّ وضْعَ البلدِ صعبٌ؛ فلا يوجدُ فيها عملٌ لأصحابِ الشهاداتِ حتى يجدَ الطالبُ فيها عملاً! فيقولُ :”لا أستطيعُ العملَ في أيِّ مهنةٍ؛ فأشعرُ بالخجلِ وأحياناً كثيرةً أوفّرُ المواصلاتِ وأذهبُ إلى الجامعةِ مشياً ومن ضيقِ وضعِ والدي أضطّرُ إلى تصويرِ الكتبِ والملازمِ من أصدقائي على الجوالِ؛ وأقومُ بتلخيصِها؛ هذا ما باستطاعتي فِعلَه”.
بينما لم يتمكنْ “سامي عوض” من الالتحاقِ بالجامعةِ منذُ عامينِ؛ فوالدُه لا يتقاضَى راتباً؛ فهو يعمل في أماكنَ متقطّعةٍ، وكثيراً ما يتركُ عملَه بسببِ التعبِ وطولِ ساعاتِ الدوامِ؛ مقابلَ أجرٍ زهيدٍ يجعلُه لمصروفِه الشخصيّ وأصدقائه.
تحدّث الطالبُ “إياد عبد الرحمن” _مستوى ثاني، تخصُّص إدارة_ عن مشوارِه في العملِ من أجلِ توفيرِ رسومِه الجامعيةِ، فيقولُ :”وضعُ أهلي الاقتصادي صعبٌ جداً؛ ووالدي يعملُ على سيارةِ أجرة؛ وكلُّ ما يستطيعُ توفيرَه للمأكلِ، والمشربِ، والاحتياجاتِ البسيطةِ، وعندما حصلتُ على معدّلٍ عالٍ في الثانويةِ العامةِ؛ لم يكنْ بمَقدرةِ والدي أنْ يُدخِلَني جامعةَ؛ لقِلّةِ الإمكانيات؛ فقرّرتُ العملَ في الدهانِ مع قريبٍ لنا؛ ولم أتمكّنْ من الالتحاقِ بأولِ فصلٍ في الجامعةِ؛ لأنني لم أتمكّنْ من جمعِ الرسومِ؛ وبعدَها التحقتُ بالجامعةِ؛ وعمِلتُ في مطعمٍ كعاملِ نظافةٍ بعدَ دوامي الجامعي! أجلي مرّةً.. وأكنسُ من وراءِ الزبائنِ.. وانتقلتُ من عملٍ لعملٍ.. وما زلتُ.. لأُتمّمَ دراستي الجامعيةَ .
بينما لم يَقبلْ “مهند علي” أنْ يكلّفَ والدَه بمصروفِه الجامعيّ؛ فهو مَدينٌ من وراءِ تعليمِ أخواتِه البناتِ؛ وخصوصاً بعدَ أزمةِ الرواتبِ، فيقولُ:” اتفقتُ أنا وأخي الأصغرُ مِنّي؛ أنْ نفتحَ عربةً للمشروباتِ بجميعِ أنواعِها، وبعضِ السندويتشاتِ البسيطةِ؛ استلَفنا من صديقٍ لنا مئةَ دولارٍ؛ وقُمنا بشراءِ عربةٍ مستهلَكةٍ وصغيرةٍ؛ هو يتولَّى أمورَها في فترةِ دوامي في الجامعةِ؛ ثُم يأتي دَوري وهكذا.. وبقينا ننتقلُ بينَ الأسواقِ والأماكنِ العامةِ، ونتوَجّهُ كلَّ جمعةٍ إلى الحدودِ.. وكثيراً ما نسقي الناسَ مشروباتٍ على حسابِنا؛ لدعمِ مشاركتِهم في مسيراتِ العودةِ.
ولا يشعرُ “مُهنّدُ” بالخجلِ أوِ الضيقِ من عملِه؛ فهو طريقُه لتحقيقِ هدفِه.. وعندما يتأخّرُ عن محاضرتِه؛ يعتذرُ من أستاذِه ويخبرُه بعملِه، فهو يشعرُ بالفخرِ والاعتزازِ بالنفسِ؛ بدَلاً من أنْ يبقَى عالةً على والدِه؛ ويُحمِّلَه مصاريفَ هو في غِنَى عنها .
بدائل أخرى
وبالحديثِ مع الفتياتِ؛ التقينا “دعاء حمدونة” التي لم تلتحقْ بالجامعةِ لمدّةِ عامينِ؛ لعدمِ توفّرِ المالِ لدَى أسرتِها! فسجّلتْ في دوراتِ رسمٍ وتطريزٍ؛ وبدأتْ بالعملِ من البيتِ بالرسمِ على “الكاساتِ، والتطريزِ على الإكسسوراتِ، واستفادت مع مواقعِ التواصلِ بالتسويقِ عبرَ “الإنترنت”؛ حتى تمكّنتْ من توسيعِ عملِها؛ وأصبحَ يُدخِلُ عليها مالاً؛ وطوّرتْ من نفسِها؛ وأصبحتْ تُعطي دوراتٍ بمقابلٍ ماليٍّ؛ ثُم التحقتْ بالجامعةِ قِسمَ تصميمٍ، فتقولُ:” لو تركتُ نفسي لظروفي؛ لَما استطعتُ أنْ أصبحَ مؤثِّرةً.. فالاعتمادُ على النفسِ، والادّخارُ، ومعرفةُ كيفيةِ صرْفِ المالِ؛ يختصرُ لنا الطريقَ”.
بينما كانت “جيهان جهاد” طالبةً جامعيةً؛ عملتْ في مكتبةِ الجامعةِ كي تساعدَ أهلَها في مصاريفِها، وتحاولُ الادّخارَ قدْرَ المستطاعِ؛ حتى تُكمِلَ دراستَها الجامعيةَ، ولم تتوانَ في التسجيلِ في قروضِ الطالبِ؛ فهي طرقتْ كلَّ الأبوابِ من أجلِ توفيرِ احتياجاتِها هي وأختُها في الجامعةِ .
وعلى النقيضِ تماماً؛ تعتمدُ “رندة الجرو” _طالبةُ إعلامٍ_ على والدَيها في مصروفِها ورسومِها الجامعيةِ فتقول:” لا أتخيّلُ نفسي أعملُ وأدرسُ في الجامعةِ! فلن أستطيعَ التوفيقَ بينَ الاثنتينِ؛ بالإضافةِ إلى أنّ وضْعَ البلدِ صعبٌ جداً، ونتمنّى بعدَ التخرّجِ أنْ نجدَ عملاً ونحن خرّيجونَ؛ لا ونحن طلابٌ “!
استمعتْ “السعادة” لأولياءِ الأمورِ؛ فلسانُ حالِهم يشكو معاناتِهم وعدمَ مقدرتِهم على توفيرِ الرسومِ الجامعيةِ، وآخَرينَ لم يتمكنوا من إلحاقِ ابنائهم بالجامعاتِ، حيثُ يشكو “أبو موسى العرقان” من كاهلِ المصاريفِ عليه؛ فالراتبُ لا يكفي للأكلِ والمتطلباتِ الأساسيةِ؛ فاضطَّرَّ أنْ يستلفَ من أختِه جزءاً من الرسومِ ليلتحقَ ابنُه بالفصلِ الأولِ؛ فهو لم يستطعْ أنْ يراه جالساً في البيتِ.. فالحلُّ إذنْ الاستلافُ إلى أجلٍ غيرِ مُسمَّى!
في حين شجّع “مصطفى أمان” ابنَه _منذُ الإجازةِ الصيفيةِ_ على العملِ في إحدى المطابعِ ليوفّرَ رسومَه الجامعيةَ، ويُعيلَ نفسَه؛ فهو مُطّلِعٌ على أمورِنا الماديةِ؛ وإنْ لم أفعلْ ذلك؛ لن يتمكّنَ من الالتحاقِ بالجامعةِ فيقولُ:” رفضتْ زوجتي أنْ يعملَ! فهو ما زالَ صغيراً، فكيف سيوفّقُ بينَ العملِ والدراسةِ! لكنْ أمامَ العجزِ الذي نعيشُه؛ لم نجدْ بديلاً واستسلمتْ للأمرِ .
“أم أبو حسين عيوش” لديه ثلاثةُ أبناءِ جامعيّين، لم يتمكّنْ من إلحاقِ أيِّ واحدٍ منهم بالجامعة ؛ فمصاريفُهم الجامعيةُ تكسرُ الظَّهرَ _على حدِّ قولِه_ :” ما صدَّقِتْ يكبروا؛ ويساعدوني في مصروفِ البيت واحتياجاته، فاثنين منهم يعملون في مخبز بأجور قليلة لا تكفي لمصاريفِ الجامعةِ .
أوضاع صعبة
وبالرجوعِ إلى أهلِ الاختصاصِ؛ التقت “السعادة” الأخصائي النفسي التربوي “محمود عبد العزيز منصور” ، الذي تحدّثَ عن الأوضاعِ الاقتصاديةِ التي يعيشُها المجتمعُ الغزيُّ، والتي أثّرتْ بشكلٍ مباشرٍ على البيوتِ في كلِّ الجوانبِ، فهناك الكثيرُ من الأهالي حصلَ أبناؤهم على معدّلاتٍ في الثانويةِ العامةِ؛ ولم يتمكّنوا من الالتحاقِ بالجامعاتِ؛ لأنّ ربَّ الأسرةِ غيرُ قادرٍ على أنْ يسدَّ الاحتياجاتِ الأساسيةَ، فيقفُ الأهلُ أمامَ مشكلةٍ كبيرةٍ عاجزينَ عن حلِّها، فمستقبلُ ابنِهم يضيعُ أمامَ أعيُنِهم؛ ولا يستطيعونَ إيجادَ الحلولِ.. كيف يتصرّفونَ ؟ وماذا يعملونَ ؟ هنا يجيبُ قُرّاءُ “السعادة” قائلا :”هذا واقعُ معظمِ بيوتِنا، يجبُ تشجيعُ الابنِ على الالتحاقِ بعملٍ بسيطٍ، أو مشروعٍ مع أصدقائه أو أقاربِه؛ من أجلِ توفيرِ رسومِه الجامعيةِ، فبعضُ الأهلِ يرفضون.. خوفاً من النظرةِ الدونيةِ لعملِ أبنائهم، متناسياً أنه لو لم يسجّلْ في الجامعةِ؛ ستكونُ النظرةُ سوداويةً أكثرَ.. لا تَنظروا للعملِ البسيطِ بأنه لا يتناسبُ معنا ومع حسَبِنا ونَسبِنا! ساعِدوا أبناءَكم وشجّعوهم على العملِ والدراسةِ؛ فهي تجعلُهم مستعدّينَ لاستقبالِ الحياةِ بحلوِها ومُرِّها، وأكثرَ صلابةً وقوةً .
يقولُ :”من خلالِ الاحتكاكِ في المجتمعِ؛ أصبحنا نرى الكثيرَ من الشبابِ الجامعيّ يعملُ في فترةِ الصيفِ، وبعضُهم يعملُ بعدَ الدوامِ الجامعيّ، في أيِّ عملٍ _حتى لو لم يتناسبْ مع شخصيتِه ومكانتِه كطالبٍ_ من أجلِ توفيرِ رسومِه الجامعيةِ، فالأمثلُة داخلَ الجامعاتِ كثيرةٌ، وهناك طلابٌ يعملونَ في محلاتِ ملابسَ، أو مطاعمَ، أو على بسطاتٍ، فلم تَعُدْ هذه المِهنُ مُخصَّصةً لفئةٍ معيّنةٍ .
وبحسبِ الأخصائي النفسي؛ يرَى أنّ إقبالَ الطلابِ على العملِ نابعٌ من تقديرِهم للعلمِ والشهادةِ؛ فالدافعُ عندَهم فاقَ كلَّ الحواجزِ النفسيةِ؛ بأنني لا أستطيعُ العملَ في هذه المهنةِ! وقضَى على الخجلِ؛ وهذا يعكسُ مدَى الوعيِ الاجتماعيّ، وتقديرَهم للظروفِ التي يعيشونها، والأهمُّ عدمُ الاستسلامِ للواقعِ، وجعلِه شماعةً تَحولُ دونَ تحقيقِهم لأحلامِهم .
وينوّهُ إلى أنّ عمليةَ التوفيرِ والتدبيرِ ترجعُ إلى طبيعةِ الشخصِ نفسِه وتنشئتِه، ومدَى شعورِه بالمسئوليةِ تُجاهَ نفسِه وذَويهِ، وقد نجدُ بعضَ الآباءِ يرفضونَ عملَ الطالبِ الإضافي؛ حتى لا يؤثّرَ سلباً على دراسةِ أبنائهم، فيضغطُ على نفسِه بتحمُّلِ النفقاتِ الجامعيةِ بديونٍ وقروضٍ واستلافٍ! وهناك من الآباءِ مَن أرهقتْهُ المصاريفُ والنفقاتُ المتعلقةُ باحتياجاتِ الأسرةِ؛ ولا يستطيعُ مجاراةَ المصاريفِ الدراسيةِ؛ الأمرُ الذي يجعلُ البحثَ عن عملٍ لابنِه أمراً ضرورياً”.
يقولٌ:” لِنَكنْ واقعيّينَ أكثرَ.. فقد نَجدُ على الصعيدِ الآخَرِ أنّ خاصيةَ التوفيرِ لدَى الطلبةِ ليست كبيرةً؛ فهناك البعضُ يلتزمُ بطلبِ المصاريفِ التي تسدُّ حاجتَهم فقط؛ وهناك من الأبناءِ من يمتَصّونَ رواتبَ ذويِهم بالطلباتِ؛ كالمصاريفِ الجامعيةِ وشراءِ الكتبِ.
تحمل المسؤولية
ويُرجعُ المستشارُ الأسري “د. منير رضوان” إقبالَ الأبناءِ على تحمّلِ المسؤوليةِ، والاعتمادِ على النفسِ، والإحساسِ بالأهلِ؛ إلي التربيةِ والتنشئةِ التي تلقّاها في الصغرِ؛ فهي ثمارُ ما غرسْنا في أبنائنا فيقولُ:” الطفلُ كالورقةِ البيضاءِ؛ ونحنُ مَن نختارُ النقشَ عليها؛ لذلك انقُشوا في أولادِكم كلَّ ما هو جميلٌ؛ حتى يواجِهوا الواقعَ الصعبَ الذي يعيشُه مجتمعُنا، فنحن نعيشُ متغيّراتٍ سريعةً ومختلفةً ومخيفةً؛ وعلينا أنْ نُهيئَ أبناءَنا أنْ يتأقلموا ويواجِهوا كلَّ الصعوباتِ .
وينوّه إلى نقطةٍ مهمّةٍ جداً؛ وهي مشاركةُ الابنِ في أمورِ الحياةِ، وإطلاعُه على الأزماتِ؛ فذلكَ يُهيئُه لتَقبُّلِ الواقعِ، والرضا به، والأهمُ مناقشتُه في إيجادِ حلولٍ، والأخذُ برأيِه، والطلبُ منه أنْ يفكّرَ في كيفيةِ الخروجِ من أيِّ مأزِقٍ؛ حتى لو كانت أفكاراً صغيرةً.. نكونُ قد علّمناهُ التفكيرَ والمشارَكةَ، وبالتدريجِ يتعلّمُ كيف يندمِجُ في الحياةِ ومواقفِها.
ويوجِّهُ حديثَه للأبناءِ: عليكم أنْ تضعوا أمامَ أعيُنِكم هدفاً محدَّداً؛ من أجلِ أنْ تصِلوا إلى ما تريدونَ، وتتجاوزوا الأزماتِ؛ برغمِ مرارةِ الواقعِ، وضيقِ الأُفقِ.. وعليهم عدمُ الاستسلامِ.. وأنْ يكافحوا ويجتهدوا ويسعوا ليَصلوا إلى ما يريدون فيقول:”إذا لم يتمكنْ الأهلُ من توفيرِ الرسومِ الجامعيةِ لكم؛ فذلكَ لا يَعني نهايةَ المطافِ، حاولْ أنْ تعملَ في إحدى المحلاتِ والمطاعمِ، وتعلّمْ ثقافةَ الادّخارِ، واعرِفْ للقِرشِ قيمتَه؛ بذلك سوفَ تصِلُ إلى ما تريدُ.
ويختمُ حديثَه قائلاً :”من أرادَ أنْ يواصلَ تعليمَه سيَصِل.. لا تجدْ المبرّراتِ والشماعاتِ التي تعلّقْ عليها قلّةَ حيلتِك وعجزِك، وتلعنْ الظروفَ والواقعَ، اطرُقْ جميعَ الأبوابِ؛ تُفتَحْ لكَ.. فما بعدَ الضيقِ إلّا الفرَجُ، اشعُرْ بوالدَيكَ اللذَينِ ضحَيا من أجلِك.. وهما الآنَ لا يستطيعان أنْ يوفِّرا لكَ مصروفَكَ ودراستَكَ، اعملْ في أيِّ عملٍ مادام شريفاً .