
تقرير : السعادة
بريشة صغيرة والوان متنوعة يتبنى أفكارِ الثورة والثوار، ملتصقاً بهمومِ الوطنِ، موثِّقاً هُويةَ المكانِ، معبّراً عن صرخاتِ الثكالى واليتامى، ومرتبطاً بواقعِ الاحتلاِل الصهيوني بكُل ما يَحمِلُه من تهجيرٍ، وتشريدٍ، وأسرٍ، وقتلٍ، واغتصابٍ للأرضِ والحقِّ .. هذا ما تحملُه لوحةُ الفنانِ الفلسطيني التشكيلي بينَ ثناياها، وهذا ما تبحثُ عنه “السعادة” لتكشفَ سرَّ قوةِ رسائلِ الأملِ والألمِ، التي يبعثُها الفنانُ الفلسطيني للعالمِ بأسرِه من خلالِ تلكَ اللوحاتِ التشكيليةِ.
اللغة التشكيلية العالمية
محمد الحاج” فنانٌّ ومدرّسُ فنٍّ تشكيليّ يتحدث عن المراحل التي مرَّ بها الفنُّ التشكيليّ الفلسطينيّ يقول: “أثّرَ الفنُّ التشكيلي فعليّاً بعدَ نكبةِ (1948)م؛ حيثُ بدأ بسيطاً معبّراً عن التهجيرِ والتغني بمزارعِ وبيّاراتِ البرتقالِ المسلوبةِ، وخيراتِ الوطنِ المسروقةِ، وصوَّرَ حالاتِ التشردِ واللجوءِ في الخيامِ، وذلِّ بطاقاتِ التموينِ، ولكنْ بعدَ هزيمةِ (1967)م؛ انعكسَ حالُ الفلسطيني؛ فرفضَ الاستسلامَ لهذه الهزيمةِ، وهبَّ يحملُ السلاحَ؛ ويقاومُ بكُل غالٍ ونفيسٍ، وانتفضتْ معه جميعُ الحركاتِ الثقافيةِ والفنيةِ، وصارت هي الأخرى مقاومةً وثائرةً، وظهرتْ في هذه الفترةِ تعبيراتٌ ثابتةٌ ومتكررةٌ في الأعمالِ التشكيليةِ، (كالعَلمِ، والحطّةِ، وإشارةِ النصرِ، وغُصن الزيتونِ).
يتابع حديثه:” أصبحتْ الحركةُ الفنيةُ الفلسطينيةُ أكثرَ غِنىً برُوَّادِها من الفنانينَ والفناناتِ، وأصبح اللون لغةً إيحائيةً، وتشكّلتْ مصطلحاتُ اللغةِ التشكيليةِ العالميةِ، وأحكامُ القياسِ والتحليلِ، والتذوقُ الفني، كما وتطوّرتْ أساليبُ الفنِّ التشكيليّ في سبعيناتِ وثمانيناتِ القرنِ الماضي، وظهرتْ مدارسُ ومناهجُ وتوَجُّهاتٌ باتّجاهٍ ديمقراطيٍّ؛ أخرجَ مجموعةً من المفاهيمِ بطريقةٍ رمزيةٍ وفنيةٍ”.
في حديث مع الفنانةُ التشكيلية داليا عبد الرحمن تقول :” يُعَدُّ الفنُّ التشكيل أحدَ مرايا العصورِ؛ فهو نتاجٌ حضاري، وتعبيرٌ ثقافي عن حالةِ الشعبِ، وآلامِه وآمالِه، ما ينطبقُ على عمومِ الفنِّ التشكيلي؛ ينطبقُ على الفلسطينيّ ؛ حيثُ أنّ الفنَّ التشكيليّ الفلسطينيّ هو مرآةٌ صادقةٌ للحالةِ الفلسطينيةِ بكُل مراحلِها_ منذُ عامِ النكبةِ حتى يومِنا هذا_ فهو يُحاكي الواقعَ، ويصوِّرُ غطرسةَ الاحتلالِ الصهيوني، ويعمّقُ الإحساسَ السياسي، وتعاطُفَ غيرِ الفلسطينيينَ مع القضيةِ الفلسطينيةِ، ويُظهرُ عدالةَ هذه القضيةِ، واستبدادَ الجانبَ الصهيونيّ المعادي، ويعبّرُ عن سياسةِ “القتلِ والظلمِ والتشريدِ” التي يتّبِعُها العدوُّ الصهيونيّ؛ بحيثُ أصبحَ الفنانُ الفلسطينيّ جندياً مجهولاً في تشكيلِ وتوثيقِ النضالِ الفلسطينيّ؛ يداً بيَدٍ مع المجاهدينَ والمقاومينَ في مواقعِ الصمودِ.
أفكار نضالية
في يرى “الحاج” أنّ الفنَّ التشكيليّ الفلسطينيّ _كسلاحٍ ثقافيٍّ_ يساهمُ في الحفاظِ على الهويةِ الوطنيةِ الفلسطينيةِ؛ فهو يحملُ أفكاراً نضاليةً مقاومِةً؛ يرسمُها باللونِ الوطنيّ، ويخُطُّ فيها رموزاً تعبيريةً صادقةً؛ تُلامسُ تفاصيلَ كلِّ مرحلةٍ من مراحلِ النضالِ الفلسطيني؛ وهذا ما يميّزُ الفنَّ التشكيليَّ الفلسطينيّ؛ بأنه صاحبُ رسالةٍ مقاوِمةٍ ثائرةٍ، ويسعَى إلى إيصالها للعالمِ أجمعَ.
تؤكّدُ العشرينية “أسيل عبد الله” _من زوارِ معارضِ الفنِّ التشكيلي_ أنّ للمقاومةِ أشكالاً عديدةً.. كلٌّ يقاومُ من مكانِه، فالمجاهدُ يقاومُ في الثغورِ على الحدودِ، والشاعرُ يقاومُ بكلمتِه وشِعرِه، والموسيقي يقاومُ بألحانِه، والفنانُ التشكيلي يقاومُ بريشتِه؛ وهذا ما يجعلُ العدوَّ الصهيونيَّ يحتارُ كيف يتصدّى لهذا الكمِّ الهائلِّ من أنواعِ المقاومةِ الميدانيةِ والفكريةِ والثقافيةِ.
توليفة متناغمة
أيَّ عملٍ فنيٍّ هو عبارةٌ عن مجموعةٍ من عناصرَ فنيةٍ متكاملةٍ ومتجانسةٍ، وتوضّحُ عبد الرحمن قائلةً: “بينَ الفكرةِ والمشهدِ تتشكّلُ ثلاثةُ أبعادٍ شكليةٍ هي: “الخطُّ واللونُ وبناءُ التكوينِ” لينتجَ بذلكَ توليفةٌ متناغمةٌ ومتناسقةٌ مع موضوعِ اللوحةِ التي تتألفُ من رموزٍ ودلالاتٍ موحيةٍ ومعبِّرةٍ؛ تتبَعُ ذاتَ الفنانِ ودواخلَه وتجربتَه وابتكاراتِه وخيالاتِه في ظلِّ الأدواتِ والمفرداتِ المعطاةِ، وممّا لاشكَّ فيه أنّ الرمزَ في الفنِّ الفلسطينيّ بشكلٍ عام، وفي التشكيليّ منه بشكلٍ خاصٍّ؛ مرتبطٌ ارتباطاً مباشراً بواقعِ الاحتلالِ الصهيونيّ بكُل تفاصيلِه: من (تهجيرٍ، وأسر،ٍ وحصارٍ، وحواجزَ، واضطهادٍ، وظلمٍ، وعدوانٍ) كما أنه منخرطٌ في الأحداثِ اليوميةِ، والتفاعلاتِ اللحظيةِ بهدفِ الدفاعِ عن الحقوقِ الوطنيةِ والتاريخيةِ والقوميةِ والحضاريةِ، وأنّ كميةَ القهرِ والظلمِ التي يتعرضُ لها الفلسطينيُّ بشكلٍ يومي؛ تجعلُ الفنانَ يتفاعلُ مع الرموزِ التعبيريةِ ليُنتجَ عملاً فنياً نضالياً مقاوِماً؛ يصرخُ بعُلوِ صوتِه في وجهِ الخذلانِ العربيّ والعالميّ بلُغةٍ عالميةٍ يفهمُها القاصي والداني؛ وهي لغةُ الرسمِ، ويؤكّدُ “الحاج” أنّ دلالاتِ الرمزِ حاضرةٌ وبشكلٍ قويٍّ في أعمالِ الفنانِ الفلسطيني؛ حيثُ كان للرموزِ ضرورةً مرتبطةً بمفهومِ إظهارِ الهويةِ الفلسطينيةِ، وتقديمِها للرأي العام الدولي، والتعريفِ بحقوقِ الشعبِ الفلسطينيّ، وكان البحثُ في الموروثِ الفلسطينيّ عملاً له صِلةٌ بتعريفِ الهويةِ، فظهرتْ المرأةُ بثوبِها التقليدي، وتجلّى التراثُ المعماريُّ بأقواسِه وقبابِه، وكانت القدسُ حاضرةً بشكلٍ قوي في أعمالِ معظمِ الفنانينَ؛ بالإضافةِ إلى رموزٍ لها علاقةٌ بالنضالِ الفلسطينيّ؛ كالبندقيةِ، والعَلمِ، والكوفيةِ، ورُماةِ الحجارةِ، وأخرى لها علاقةٌ بالبيئةِ المحيطةِ؛ كالمياهِ، والأشجار،ِ والهلالِ، واختلفتْ دلالاتُ هذه الرموزِ من زمنٍ لزمنٍ آخَرَ؛ بِحُكمِ التحولاتِ الناتجةِ عن المؤثراتِ المحيطةِ بالقضيةِ الفلسطينيةِ، مع ظهورِ دلالاتٍ رمزيةٍ عصريةٍ جديدةٍ؛ ما عزَّزَ من العناصرِ الرمزيةِ في اللوحةِ الفلسطينيةِ.
مدلولات تعبيرية
وعن اللونِ تتحدثُ “عبد الرحمن” قائلة: “إنّ اللونَ في اللوحةِ الفلسطينية له إيحاءاتُه ومدلولاتُه التعبيريةُ؛ فاللونُ الأحمرُ يعبّر في مدلولِه عن الثورةِ والحركةِ المقاوِمةِ، وعن الحبِّ والوفاءِ والولاءِ لفلسطينَ، أمّا الأخضرُ فهو رمزٌ للطيبةِ والخيرِ والعطاءِ، وازدهارِ الحياةِ، واستمرارِ جذورِ الكفاحِ، فيفتحُ بذلك فسحةً للأملِ؛ أمّا الأزرقُ يعبّرُ عن الآمالِ المنشودةِ من حريةٍ، وحياةٍ، وانعتاقٍ، وسموِّ النفسِ، ويرمزُ لدروبِ التحريرِ، وأماني العودةِ، وبشكلٍ عام فإنّ الألوانَ الرئيسةَ المستخدَمةَ غالباً في اللوحةِ الفلسطينيةِ؛ هي الألوانُ التي يُطلقُ عليها اسمُ الألوانِ الأساسيةِ في الدائرةِ اللونيةِ وهي: (الأحمرُ والأصفرُ والأزرقُ) ودرجاتُها الاشتقاقيةُ برودةً وحرارةً، وهذه الألوانُ متناسبةٌ مع المدلولاتِ النضاليةِ والثوريةِ، ويتمُ استخدامُ الألوانِ المحايدةِ وهي: الأبيضُ والأسودُ والرمادي؛ لإضفاءِ الاتزانِ على اللوحاتِ التشكيليةِ. ويبيّنُ الحاج قائلاً: “إنّ اللوحةَ الفلسطينيةَ تكادُ لا تخلو من ألوانِ العَلمِ كمدلولٍ وطنيٍّ يحملُ في طياتِه ملامحَ الهويةِ؛ إلاّ أنّ الفنانَ الفلسطينيَّ كان ينوّعُ أيضاً ما بين الألوانِ الدافئةِ التي ترمزُ إلى الحنينِ للماضي، والتمسّكِ بالجذورِ الأصيلةِ، والتي تتعلقُ بلونِ الأرضِ، فنجدُ بعضَ الفنانينَ يميلونَ إلى الألوانِ الترابيةِ، فتكونُ طاغيةً على أعمالِهم الفنيةِ، وبينَ الألوانِ الباردةِ التي ترمزُ للأملِ والعودةِ والاستقلالِ”.
هموم الوطن والمواطن
إنّ الفنّ التشكيلي يُعدُّ لغةً عالميةً؛ يتمكنُ الفنانُ من خلالها إيصالَ رسالةِ فلسطينَ للعالمِ، هذه الرسالةُ التي غالباً ما تَحملُ همومَ (الوطنِ، والانتماءِ، والتشردِ، والتهجيرِ، والظلمِ، والاستبدادِ) ولكنْ في المقابلِ تَحملُ هذه اللوحاتُ الفلسطينيةُ بين الفينةِ والأخرى قبساً من الفرحِ، وقناةً من الأملِ، وفسحةً من التفاؤلِ بالنصرِ والاستقلالِ، وعن هذه الفسحةِ تشرحُ عبد الرحمن قائلة: ” لابدَّ للفنانِ أنْ يوصلَ رسائلَ الحبِّ، والتفاؤلِ، والأملِ؛ تماماً كما يرسلُ رسائلَ القتلِ، والدمارِ، والظلمِ، والاستبدادِ؛ حيثُ فسحةُ الأملِ هذه هي التي تداوي قلوبَ الثكالى، والأسرى، وذوي الشهداء والجرحى، ويستخدمُ الفنانُ الفلسطيني أثناءَ رسمِه رموزاً تدلُّ على التفاؤلِ مثلَ: (الشمسِ، والقمرِ، وعلامةِ النصرِ، والمياهِ، والأشجارِ)، ورموزا تدلُّ على الأملِ مثلَ: قبةِ الصخرةِ، والمسجدِ الأقصى؛ كرمزٍ للعودةِ، كما وتُستخدمُ الألوانُ التي تعبّرُ في مدلولاتِها عن الأملِ: كاللونِ الأزرقِ، والأبيضِ، واللونِ البنفسجي، والأخضرِ”، وترى العشرينية “هدى العلمي” _طالبةٌ في كليةِ الفنونِ الجميلةِ_ بأنه على الرغمِ من الهمومِ والأوجاعِ التي تطالُ الشعبَ والوطنَ في فلسطينَ؛ إلّا أنّ الأملَ دائماً موجودٌ.. والشعبَ الفلسطينيّ بطبيعتِه متفائلٌ، ويبحثُ عن بصيصِ الأملِ، وثغراتِ الفرحِ بكُلِّ ما أوتيَ من قوةٍ، والفنانُ يجيدُ رسمَ الأملِ؛ كما يجيدُ رسمَ الألمِ، ويؤكدُ الثلاثيني “صبحي معروف” _أحدُ زوارِ معارضِ الفنّ الفلسطيني_ أهميةَ اللوحةِ المتفائلةِ؛ لأنّ لغةَ الرسمِ هي لغةُ الفرحِ والسرورِ؛ وإنْ لم تصلْ رسالةُ الأملِ والتفاؤلِ؛ فلن تصلَ رسالةُ الثورةِ والنضالِ، فالرسالةُ الأولى هي الغايةُ للثانيةِ.
وكما يرى “الحاج” أنّ للفنِّ الفلسطيني خصوصيةً وتفرُّداً؛ جاء بناءً على توزيعِ الفلسطينيينَ الجغرافي في كلٍّ من القدسِ، والضفةِ الغربيةِ، وغزةَ، والأراضي المحتلةِ في الداخلَ، والشتاتِ فالفلسطيني؛ تأثّرَ بالمكانِ الذي يقيمُ فيه؛ وبالتالي فإنّ ملامحَ الفنِّ هنا تتنوعُ، وتختلفُ، وتتمتعُ بسماتٍ تميّزُها حسبَ طريقةِ طرحِ فكرةِ العملِ الفني؛ بالرغمِ من أنها كلَّها تدورُ في فَلكِ واحدٍ موضوعُهُ هو فَقدُ الوطنِ، والاغترابُ، والهجرةُ، والاحتلالُ، والظلمُ؛ وهذه الأفكارُ لا تزالُ ملازمةً للوحةِ الفنانِ الفلسطيني حتى يومِنا، وإنِ اختلفتْ ترجمتُها.. وهذا الاختلافُ نابعٌ من ممارساتٍ فكريةٍ تنتجُ من التأثرِ بالأحداثِ المحيطةِ بالفلسطيني، وخاصةً أنه يعيشُ حالةً من الترقبِ والانتظارِ والقلقِ؛ ما يعزّزُ من طريقةِ ترجمةِ ومعالجةِ الأفكارِ التي تخدمُ قضيةَ النضالِ الفلسطيني بوسائلَ عصريةٍ؛ ما جعلَ الفنَّ الفلسطيني يأخذُ حيزاً جيداً في الوسطِ المَحلي والعربي؛ ولكنه بحاجةٍ إلى دفعةٍ قويةٍ للدخولِ إلى العالميةِ؛ من أجلِ تقديمِ رسالتِه للعالمِ، والتعريفِ بالقضيةِ الفلسطينيةِ برؤيةٍ بصريةٍ معاصِرةٍ ذاتَ طابَعٍ إنسانيّ، فبناءُ التكوينِ في اللوحةِ يطغَى عليه عنصرُ الإنسانِ والمكانِ، وارتباطهُما مع بعضهِما البعضِ؛ للدلالةِ على هويةِ الأرضِ والصراعِ من أجلِ الحفاظ ِعليها.