الشبابُ وصناعةُ الوَعيِ
لقد اعتادَ أهلُنا مُرغَمينَ على تَقبُّلِ ذاكَ الجوِّ المشحونِ، الذي يقودُه نَفَسُ الحزبِ الواحدِ منذُ زمنٍ بعيدٍ، بعدَ أنْ وَجدتْ تلكَ الأجواءُ مَن يعزِّزُها ويُسانِدُها من المُطبِّلينَ والمُستنفِعينَ الذين يُجَمِّلُون صورةَ الوضعِ العام؛ بلْ ويُظهِرونَه بمَظهرٍ وَردِيٍّ خلَّابٍ؛ يَتفَيّأ ظلالَه كلُّ مكوّناتِ الشعبِ، وقطعًا إفكًا يدَّعونِ، والحقيقةُ الجَليَّةُ أنّ فئةً كبيرةً من الناسِ؛ قد أثقلتْ كاهلَها الحياةُ؛ وأضحى شغلُها الشاغلِ العيشَ بالحدِّ الأدنَى من مقوّماتِ الحياةِ، أو قُلْ العيشُ بكرامةٍ، ليسوا آبِهينَ بما يدورُ حولَهم من نزاعاتٍ.
أمّا هناكَ فثَمّةَ فئةٍ من الشبابِ لا تَقبلُ بهذا الحالِ، يَتُوقونَ لأكثرَ من ذلكَ الفُتاتِ؛ فَهُم يملِكونَ من الوَعي الإيجابيّ ما يحرّكُ وِجدانَهم، ويُثيرُ عقولَهم، ويؤَهّلُهم للمقارنةِ بينَ الغَثِّ والسمينِ، والتصرّفِ المقبولِ والمَذمومِ لدَى المُتَنفِّذِينَ وأصحابِ القرارِ، مما اقتضَى منهم العملَ بصمتٍ لمحاولةِ تغيّيرِ الواقعِ، أو مغادرةِ الوطنِ مُغاضبينَ؛ وقد تَحوَّلوا إلى بركانٍ باردٍ قد خَبا أُوارُه.
لا شكَّ أنَّ الشبابَ هم عمادُ الأممِ؛ وهم أكثرُ فئاتِ المجتمعِ حيويةً وإنتاجًا؛ ويُناطُ بهم أنْ يلعبوا دَورًا مُهِمًّا ورئيسًا في الانتعاشِ والتعافي من الأزماتِ والتحدياتِ؛ فكان لِزامًا عليهم المبادرةُ والمشاركةُ في حلِّ مختلفِ القضايا الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ والسياسيةِ.
ولأنَّ التعليمَ والتربيةَ يساهمانِ في تشكيلِ حالةِ الوَعيِ لدَى الشبابِ؛ يُعَدُّ التعليمُ الاستثمارَ الحقيقَ الأمثلَ؛ نظرًا لأهميّتِه على الصعيدَينِ الفرديِّ والاجتماعيِّ، فالإحصائياتُ في وطني تشيرُ الى أنه من بينِ كلِّ (100) شابٍّ وشابّةٍ في العمر (18-29) سنةً؛ هناكَ (18) شابًّا حاصلينَ على درجةِ “البكالوريوس” فأَعلَى، ولعلَّ الشابّاتِ الأوفرُ حظًّا؛ إذْ أنّ (23) شابّةً من بينِ كُلِّ (100) شابَّةٍ حاصلةٌ على درجةِ “البكالوريوس” فأعلَى مقابلَ (13) شابًّا ..
وفي واقعِ الأمرِ، هناكَ العديدُ من الأهدافِ التي يمكِنُ تحقيقُها من خلالِ المشاركةِ الفاعلةِ للشبابِ في المجتمعِ؛ بعدَ الصياغةِ الإيجابيةِ لوَعيِهِم، وصَقْلِه بصورةٍ جيّدةٍ في ظِلِّ الفوضَى الإعلاميةِ والتطوّراتِ السلبيةِ للواقعِ العام.
وحيثُ أنَّ جُلَّ الشبابِ لا يمتلكونَ مقوّماتٍ.. فَهُم الصورةُ الصحيحةُ للوضعِ العامِّ، فالأجواءُ مُغبَرَّةٌ، ومَصادرُ الرؤيةِ والتوضيحِ مُشَوَّشةٌ؛ مِمّا يضعُ الشبابَ في مسارٍ ذي عِوَجٍ؛ لا يدري أحدُهم أيَّ الوِجهاتِ أصوَبَ؛ ما لم يكنْ لدَيهِ رصيدٌ كافٍ من الوَعي والمعرفةِ.
بالوعيِ يستطيعُ الشبابُ أنْ يكتشفوا الكثيرَ من الأخطارِ، ويُحَدِّدوا أولئكَ الفاسدينَ الذين يتحدّثونَ باسمِ الدِّينِ والوطنِ؛ وأفكارُهم ملوَّثةٌ بِلَوثةِ الغربِ الفاسدِ.
نَعمْ، يُعَدُّ الوَعيُ ميزانَ الأعمالِ؛ تُقَيَّمُ به الأقوالُ، والأفعالُ، والتصرُّفاتُ، والسياساتُ؛ بل ويُقيِّمُ به الأفرادُ أنفُسُهم..
طريقُ الوَعيِ يبدأُ من هاتيكَ الاستفهاماتِ التي يطرحُها الشبابُ عندَ كلِّ حدَثٍ ومَوقفٍ؛ فتأخذُهم لعالمِ البحثِ والتحرّي؛ حيثُ توجَدُ إجاباتٌ كُثُر على كلِّ تساؤلاتِهم، إجاباتٌ متشابِهةٌ ومُتضادّةٌ تحتاجُ منهم إلى درايةٍ وإحاطةٍ معرفيةٍ كافيةٍ؛ ليُفَرِّقوا بينَها، ويُقيّموا ما سبقَ من مَشاهدَ؛ وهذا كفيلٌ بأنْ يُحقِّقَ لهم ولشعبِهم الأمانَ والخروجَ من حالةِ الغفلةِ والفوضَى التي يَحيَونَها.
نَعمْ، نحنُ وشبابُنا أحوَجُ ما نكونُ إلى نهضةٍ واعيةٍ واسعةِ المدَى بينَ جميعِ طبقاتِ المجتمعِ الفلسطيني؛ لنواجِهَ التحدّياتِ على الصعيدِ الداخلي والخارجي، كما نحتاجُ إلى وَعيٍ إيجابيٍّ عامٍّ؛ لنحافظَ على المُنجَزاتِ ونُنَمّيَها ونُطوّرَها.
هنا يتجلّى دَورُ أصحابِ القلوبِ الرحيمةِ، والعقولِ المتبَصِّرةِ، والضمائرِ الحيَّةِ في إحقاقِ الحقِّ، وتنويرِ الناسِ وتبصيرِهم بحقوقِهم؛ عبْرَ نشرِ الثقافةِ الواعيةِ الناهضةِ بالمجتمعِ للرؤساءِ والمَرؤوسينَ، للأغنياءِ والمحتاجينَ. ثقافةٌ مسؤولةٌ؛ ليستْ أُحاديةَ الاتّجاهِ، ثقافةٌ تَرفعُ الضَّيْمَ عن الناسِ؛ وتسعَى لتوسيعِ مَداركِهم، ثقافةٌ تُمَكّنُ أهلَ الحلِّ والعَقدِ من قراءةِ المشهدِ؛ قبلَ أنْ تقودَ الناسَ بطونُهم لحراكٍ لا تُحمَدُ عُقباهُ؛ يستنزفُ قوَى الشعبِ ومقدّراتِه، ويلقي به إلى مَهاوي الرّدَى.
كما يجبُ العملُ على تنميةِ الروحِ الجماعيةِ لدَى الشبابِ، وتعزيزُ قِيَمِ التسامحِ والتآخي، وقَبولُ الطرَفِ الآخَرِ من موقعِ الاختلافِ، والإقرارُ بوُجودِه؛ مما يُخَلِّصُ الشبابَ من النزعاتِ الفرديةِ والحزبيةِ المقيتةِ، وكذلكَ تعزيزُ روحِ المبادرةِ وإطلاقِ الطاقاتِ للمنافسةِ الشريفةِ في الإبداعِ والابتكارِ، من خلالِ الحوافزِ المعنويةِ، والمكافآتِ التشجيعيةِ؛ ثُم تطويرُ الطاقاتِ الإبداعيةِ والمواهبِ والمَلكاتِ الكامنةِ لدَى الشبابِ في مختلفِ وشتَّى الميادينِ العمليةِ والعلميةِ والفنيةِ وغيرِها، وتبَنّيها وإعطاؤها فُرصتَها الكاملةَ لكي تُعطيَ وتُبدِعَ وتُطوّرَ، وقطعًا هذا الوعيُ، وهذه الثقافةُ، وهذه الروحُ هي المُعَوَّلُ عليها في نهضةِ الأُمّةِ ورُقيِّها بينَ الأُممِ.