
تحقيق : السعادة
خربة طانا تعيش حالة من الفزع والقلق وعدم الاستقرار، منذ أعوام طوال؛ فالأرض دمرت والمنازل هدمت بأوامر عسكرية من الاحتلال، فالقادمُ إلى خِربة “طانا” شرقَ بلدةِ “بيت فوريك” في مدينة نابلس، يشعرُ بأنّ الزمنَ عاد به مئاتِ السنينَ إلى الوراء، فكافةُ سكانِها يُقيمونَ حالياً داخلَ كهوفٍ بدائيةٍ؛ تنعدمُ فيها الخدماتُ الأساسيةُ للحياة!،بعدَ أنْ كانوا يمتلكونَ المنازلَ والأراضي الزراعية، والممتلكاتِ الخاصة.
نفّذتْ قواتُ الاحتلالِ عمليةَ الهدمِ في إطار حملةٍ جديدةٍ؛ للنيلِ من عزيمةِ أهالي التجمعِ الريفي؛ وذلك بهدفِ طردِهم من أرضِهم التي أعلنَ الاحتلالُ عنها منطقةً عسكريةً مغلقةً، في حين تُشرّعُ حكومةُ الاحتلالِ _من خلالِ ما تُعرفُ بالإدارةِ المدنيةِ_ الحقَّ للمستوطنينَ في مستعمرةِ “مخولا” والبؤرةِ الاستيطانيةِ القريبةِ من تجمع “جفعات عولم” بالبناءِ والتوسّعِ بشكلٍ غيرِ قانوني في أراضي الموطنين، والمناطقِ المحيطةِ بها.
تعرّضتْ الخربةُ للهدمِ مراتٍ عديدة ومتتالية على مدار الأعوام السابقة، إذْ شرعتْ قوةٌ كبيرةٌ من الجيشِ “الإسرائيلي” برفقةِ 4)) جرّافاتٍ عسكريةٍ بتنفيذِ أعمالِ هدمٍ طالت (42) منزلاً سكنياً؛ قُدّمَ نصفُها كتَبرُّعٍ من مؤسسةِ (آكندا) الفرنسية، وتجريفِ منشآتٍ جديدةٍ وبلاستيكيةٍ، وحظائرَ للأغنامِ، ونبعِ المياهِ الرئيسِ، بالإضافةِ إلى تدميرِ وحداتٍ صحيةٍ خارجيةٍ متنقلةٍ؛ تبرّعتْ بها مجموعةُ (الهيدولوجين) الأوروبية، فيما صادرتْ القواتُ (5) مركباتٍ وخيمةَ تَبرّعَ بها الصليبُ الأحمرُ الدولي للسكانِ.
الحالةُ التي آلتْ إليها ((42 عائلةً من خِربة “طانا” مكوّنةٌ من( 280) فرداً، من بينِهم ((70 طفلاً، جاءت بعد عملياتِ هدمٍ وتجريفٍ متواصلةٍ؛ نفّذتْها القواتُ “الإسرائيلية”، كان آخِرُها في شهرَ أبريل الماضي، والتي انتهت بتدميرِ منازلِهم كاملةً، وتجريفِ ( 40) حظيرةً تُؤوي( 8) آلافِ رأسٍ من الماشيةِ.
صور الموت
“السعادة” تواجدتْ في خربةِ “طانا”؛ لتنقلَ صورةً حيّةً عن حياةِ الأهالي داخلَ الكهوف، والتي تفتقرُ لأدنَى مقوماتِ الحياةِ، حيثُ يفترشُ السكانُ وأطفالُهم الأرضَ، ويعتمدونَ على وسائلَ بدائيةٍ في حياتِهم اليومية.
عائلةُ المواطنِ “ماجد حنني” المكونةُ من 8)) أفرادٍ، و4)) أطفالٍ؛ تقضي أوقاتَها داخلَ كهفٍ متهالكٍ؛ لجأتْ للعيشِ بداخلِه منذُ أيامٍ قليلة، عَقبَ هدمِ الاحتلالِ منزلَه، وحظيرةَ المواشي الخاصةِ به.
ويقولُ “حنني” وقد بدتْ معالمُ القهرِ واضحةً على وجهِه:”” إنّ حياتَنا صعبةٌ للغاية، ومريرةٌ، ففي المراتِ السابقةِ التي هدمَ الاحتلالُ فيها منازلَنا؛ أقمْنا بيوتاً من الصفيحِ والإسمنتِ، ولكنّ الاحتلالَ سرعانَ ما يهدمُها بذريعةِ البناءِ غيرِ المرخَصِ في مناطقَ مصنفةٍ (C) وفقاً لاتفاقيةِ أوسلو”.
ويضيف:” الاحتلالُ سلبَ منا كلَّ شيء، وبقينا مشرّدينَ بلا مأوى، فلم نجدْ سِوى الكهوفِ تؤوينا على الرغمِ من انعدامِ أدنَى مقوماتِ الحياةِ بداخلِها، ولكننا لم نجدْ بديلاً سِواها!، على الرغمِ من فقدانِنا للأمانِ ونحن بداخلِها، فلم نَسلمْ من ممارساتِهم اليوميةِ؛ حيثُ ينغّصُ المستوطنونَ والجنودُ علينا بتواجدِهم المستمرِ والاعتداءِ علينا”.
ويتكونُ الكهفُ من الداخلِ من غرفةٍ واحدةٍ يعيشُ فيها “حنني” وعائلتُه كلَّ تفاصيلِ حياتِه اليوميةِ، فهي غرفةُ النومِ والمعيشةِ والضيافةِ!، ولا يتوفرُ بداخلِها سِوى الفراشِ البسيطِ، وموقدٍ للتدفئةِ والطهي”
خسارة كل شيء
وخسرَ “حنني” ألفَي رأسٍ من الماشيةِ _كانت شقى عمرِه_ نفقتْ إثرَ عمليةِ التجريفِ والهدمِ من قِبلِ قواتِ الاحتلالِ، وكان يعتمدُ على ما تُنتِجُه من خرافٍ وألبانٍ وأجبانٍ كمصدرِ دخلٍ له ولأسرتِه.
يضيف:” كانت تلك المواشي تساعدُنا على العيشِ ومواجهةِ الظروفِ الصعبةِ التي نمرُّ بها، فكنتُ أساعدُ زوجتي في صناعةِ الأجبانِ في فسحةِ المنزلِ سابقاً؛ ولكننا اليومَ خسِرنا ذلك”.
ويشيرُ “حنيني” إلى مستوطنةِ “مخولا” على قمةِ جبلٍ مقابلٍ لمنزلِه المدمّرِ قائلاً:” بجانبِ تلك المستوطنةِ نصبَ مستوطنٌ قبلَ عدّةِ سنواتٍ بيتًا متنقِلًا، وبات اليومَ يملكُ مزرعةً لتربيةِ الأبقارِ، وأسسَ بؤرةً استيطانية، يريدُ أنْ يتمدّدَ ويسيطرَ على كلِّ هذه الأراضي التي نعيشُ فيها قبلَ قدومِ الاحتلالِ”.
ويؤكّدُ أنّ كافةَ سكانِ الخربة البالغِ عددُهم (280) فرداً يقطنونَ حالياً داخلَ الكهوفِ والمغاراتِ؛ بعدَ أنْ هُدمتْ كافةُ مساكنِهم المؤقتةِ والدائمة.
ويقولُ حنني:” إنّ أهالي الخربةِ يعيشونَ فيها منذُ عشراتِ السنين، ويعتاشوَن على الزراعةِ ورعيِّ الضأنِ والبقرِ، وفي سنواتِ السبعينَ حين كان بعضُ السكانِ يعيشونَ في المنطقةِ؛ أُعلِنت المنطقةُ التي تقعُ فيها القريةُ منطقةً عسكريةً مغلقةً، وأعلنتْ فيها منطقةُ تدريباتٍ عسكريةٍ. ولا تعترفُ الإدارةُ المَدنيةُ بخربةِ “طانا” كقريةٍ جديرةٍ بالتخطيطِ، وتحظرُ البناءَ فيها؛ ولذلك فإنّ المجتمعَ المَحلي فيها غيرُ مربوطٍ بشبكتَيْ الماءِ والكهرباءِ وسكانَها يستخدمونَ نبعَيْ مياهٍ موجودتَيْنِ في المكان”.
يضيف:” كان السكانُ يمكثونَ في الأراضي الزراعيةِ في بيت فوريك؛ هدمتْ الإدارةُ المدنيةُ غالبيةَ مباني القريةِ، وسدّتْ مداخلَ المُغرِ التي كان يستخدمُها السكانُ. ونُفذّتْ عمليةُ الهدمِ بادّعاءِ البناءِ غيرِ المرخَصِ في داخلِ منطقةِ تدريباتٍ عسكريةٍ، مع أنّ منطقةَ التدريباتِ في تلك الفترةِ لم تكنْ ناشطةً منذُ 15)) عامًا على الأقلّ. وقد شيّدَ سكانُ القريةِ بيوتَهم من جديدٍ، وقدّموا في نهايةِ تلك السنةِ التماسًا للمحكمةِ العليا مُطالبينَ الإدارةَ بتجهيزِ خارطةٍ هيكليةٍ لهم، وبالامتناعِ عن هدمِ بيوتِهم .
ويتابعُ قوله:” لكنّ عملياتِ الهدمِ لم تتوقفْ منذُ ذلك الوقت، وتكرّرتْ في كلِّ عامٍ مراتٍ عديدةً، حتى انتهتْ بإزالةِ المباني كاملةً في عام (2017 )”.
وفي زوايةٍ أخرى كانت تجلسُ الخمسينية “مفيدة العراورة” وقد شقّتْ ملامحُ المعاناةِ والتعبِ خطوطاً على وجهِها.. في البدايةِ امتنعتْ عن الحديثِ معنا بتهجُم قائلةً:” أنت شايف حالنا بيغني عن أي أسئلة، شو بدكم نحكي عن تشرُدنا، ولا تهديم بيوتنا، وقتل رجالنا ” وبعدَ محاولاتٍ لتهدئتِها تابعت حديثَها قائلة :” مَهما حصل لن نتركَ اراضينا، لن نستسلمَ للمحتلّ، هنا ولدِنا، وهنا سوف ندفنُ، باقينَ رغم مرارةِ الحياةِ وقسوتِها، نرى غيرَنا يتمتعُ في خيرِنا أمام أعينِنا؛ ليزيدَ قهرنا يوماً بعدَ يومٍ، ولكنّ صمودَنا وتمسُّكَنا بالحياةِ أكبرُ ردٍّ لنَقهرَهم “.
وتسترسلُ بحديثِها: الحياةُ كما ترى معدومةً؛ لا يتوفرُ لنا أدنَى مقوماتِ الحياةِ، حتى أنهم يريدونَ تجهيلَ أطفالِنا؛ فهدموا مدرستَهم ولكننا أقمنا مدرسةً.. صحيحٌ أنها صغيرةٌ.. لكنْ أفضل من لا شيء”.
وكان بجانبِ الخمسينيةِ أحفادُها الصغارُ التي تُعِدُّ لهم الجِبنَ واللبنَ الذي هو غذاؤهم الرئيسُ، تركناها لتواصلَ عملَها وحديثَها مع أحفادِها، وانتقلنا إلى كهفٍ آخَرَ .
لن نرحل
على بُعدِ (50) متراً يقيمُ “محمد نصاصرة” في كهفٍ مجاورٍ؛ هو وعائلتُه المكونةُ من ((11 فرداً؛ بعدَ أنْ هدمَ الاحتلالُ مسكنَه، وجُرفتْ (4) حظائرَ، وخيامٌ للطيورِ والمواشي؛ كان يعتاشُ منها، بالإضافةِ إلى تحطيمِ سيارةٍ خاصةٍ به.
ويقول “نصاصرة” الذي التقتُه “السعادة” وهو يجلسُ أمامَ فسحةٍ صغيرةٍ أمامَ الكهفِ الذي يقيمُ فيه:” نسكنُ في خربةِ “طانا” منذُ أنْ وُلدنا، ومن قبلِ ذلك الآباءُ والأجدادُ، ولكنّ الاحتلالَ يبذلُ كلَّ ما بوسِعه لترحيلِنا، والسيطرةِ على الأراضي لصالحِ التوسُّعِ الاستيطاني”.
يضيف:” نحن لا نشكّلُ خطرًا على أحد، إذ نعيشُ حياةً بسيطة، ونرعَى الأغنامَ التي تشكّلُ هي ومنتجاتُها مصدرَ دخلِنا، ورغمَ كلِّ ذلك نتعرضُ لعملياتِ هدمٍ متواصلة”!.
يصِفُ حياتَه داخلَ الكهفِ “بالموت البطيء”، ولكنه استدركَ قائلاً:” إنّ الحياةَ داخلَ الكهفِ هي الخِيارُ الوحيدُ أمامَنا اليوم، ولكننا لن نَخرجَ من هذه الأرضِ!، فسوف نعيدُ بناءَ المنازلِ التي هدموها، وسنوَرّثُ حقوقَنا لأبنائنا وأحفادِنا من بعدِنا”.
وبجانبِ الكهفِ المتهالِك؛ الذي يقضي فيه “نصاصرة” حياتَه؛ يلهو أطفالُه من حولِه مع صغارِ الخرافِ التي نجتْ من عملياتِ التجريفِ، فيما بدتْ ملامحُ البؤسِ ظاهرةً على وجهِ طفلتِه “نُهَى” صاحبةِ الأعوامِ الثمانية.
وتقولُ “نهى” بصوتٍ خافت:” إنّ الجيشَ هدمَ بيتَنا ومدرستي التي كنتُ أدرسُ فيها، وحرمونا من اللعبِ والدراسة”.
حرمان من التعليم
لا تقتصرُ المعاناةُ التي يتعرضُ لها مواطنو خربةِ “طانا” على الهدمِ والمصادرةِ؛ وإنما يُحرمونَ هم وأطفالُهم من أدنَى مقوماتِ الحياةِ، وتفتقرُ خربتُهم إلى الخدماتِ الأساسيةِ، ولم تكتفِ إسرائيل بذلك فحسْب، لتهدمَ المدرسةَ الوحيدةَ للطلبةِ؛ والتي كانت أملَهم في إكمالِ مسيرتِهم التعليميةِ.
وكانت مدرسةُ خربةِ “طانا” قد تعرّضتْ للهدمِ خلالَ عمليةِ الهدمِ الأخيرة، حيثُ تظهرُ آثارُ ذلك من خلالِ الغرفِ الصفيةِ التي تحولتْ إلى رُكامٍ.
وللحديثِ عن ذلك، التقت “السعادة” عضوَ مجلسِ بلدي بيت فوريك “أسامة خطاطبة”، حيثُ يقول:” إنّ مدرسةَ خربة “طانا” التي كانت هي المَنفذَ التعليميّ الوحيدَ لعشراتِ الأطفالِ من كلا الجنسينِ؛ باتت حالياً بقايا من الصفيحِ والباطونِ!، فلا ندري حتى اللحظةِ ما الخطرُ الذي شكّلتهُ تلك المدرسةُ على الجيشِ “الإسرائيلي”.
ويضيف:” بعدَ أنْ هدمَ الاحتلالُ مدرسةَ خربةِ “طانا” المكوّنةِ من فصلَينِ دراسيينِ، لا يوجدُ بها حالياً مدرسةٌ للأطفالِ الذين يضطّرونَ للدراسةِ في مدرسةٍ من “البرَكسات الحديدية” في بلدةِ “بيت فوريك”؛ تبعدُ عن الخربةِ مسافةَ (8) كيلو متر”.
وتفتقرُ خربةُ “طانا”، بحسبِ “خطاطبة”، إلى كافةِ الخدماتِ الأساسيةِ، فهي غيرُ موصولةٍ بشبكاتِ المياهِ والكهرباء، ويعتمدُ سكانُها على الخلايا الشمسيةِ لتوفيرِ الكهرباء، وذلك بسببِ ممارساتِ الاحتلالِ، وتحويلِ أراضي المواطنينَ إلى منطقةٍ عسكرية، بالإضافةِ إلى منْعِنا من البناءِ والعملِ فيها.
ويقابلُ المدرسةَ المهدمةَ مسجدٌ من الحَجرِ القديمِ، ما زال جاثماً في وسطِ الخربةِ، غيرَ آبِهٍ بتهديداتِ الاحتلالِ، وتعلو من مئذنتِه المتواضعةِ أصواتُ الأذانِ في أغلبِ الأوقاتِ، ويؤمُ المسجدَ المتواجدونَ بالقربِ منه.
يُذكرُ أنّ خربةَ “طانا” التابعةَ لأراضي بيت فوريك في نابلس؛ تحاصرُها 4)) مستوطناتٍ، وهي (حرمة, و جيتيت, وإيتمار, ومخورا)، بالإضافةِ إلى معسكرِ تدريبٍ لقواتِ الجيشِ الإسرائيلي.
هذه هي صورةٌ مختصَرةٌ للواقعِ المريرِ الذي يعيشُه 280) )مواطناً داخلَ خربةِ “طانا”، فما إنْ يَحلّ الظلامُ، ويسدلُ الليلُ ستارَه؛ تبدأ فصولُ ليالٍ لا يَعرفُها إلاّ القاطنونَ داخلَ كهوفِ الخربةِ!.