مرآتي
زمن “التأليف”
في عصر العولمة المتزايدة، والانفتاح الخارج عن الحدود، والحريات المعيقة للحرية، وتمكين كل البشر من الوصول للكل الآخر، ونشر ما يحلو لهم من أفكار، أو حتى شبه أفكار، كل شيء أصبح متاحاً وممكناً، وصارت الأفعال المنضبطة بلا ضوابط، والعلوم المتعمقة بغير حاجة لدراسة، والأفكار المتناثرة لا تتطلب الدليل، حتى التأليف أصبح فهلاً شخصياً يمارسه أي شخص له القدرة على ملء عدة صفحات، ودفع ثمن عدة طبعات!
يكفي لتكون مؤلفاً أن تخطر ببالك فكرة ليلاً، فتطبعها على حاسوبك، وتتجه صباحاً إلى المطبعة فتنشئ منها كتاباً توزع منه نسخاً وتقيم له حفل توقيع!
ليس غريباً إذاً أن نجد آلاف المؤلفات التي لا قيمة لها إلا تكلفة الورق والحبر، وتمتلئ المكتبات بكتب لا فائدة منها سوى ملء فراغات الرفوف، ونقرأ أسماءً براقة لا نفهم منها سوى حفنة من الكلمات المصفوفة.
شرف الانتفاضة
منذ رجوعي إلى أرض الوطن، كنت أستمع لحديث الزميلات عن أيام انتفاضة الحجارة وتفاصيل الأيام فيها، بلهفة وتركيز عالٍ، وعندما أؤكد على كلامهم بمعلومة ما، كنت أسمع دائماً التعليق “انتي محضرتيهاش”، كانت هذه العبارة مؤذية كالسباب، وتهمة تشبه الخيانة، كنت أدفعها بدليلي الأقوى بقضاء بضعة أشهر من الانتفاضة في غزة أيام زيارات العطلة، وفيها أسقطتُ عني فرضية المكوث تحت “الطوق”، والملاحقة من قبل الـ”شماركفول”، والوقوف في صف التفتيش أثناء مداهمة البيوت، كنت أدافع عن ذلك الوجود بكل ما أوتيت، كأنه برهان شرف، وبراءة ذمة، ورغم أن نظراتهن غير المقتنعة إليّ، لم تكن مطمئنة، لكن إقرارهن بالدليل كافياً بالنسبة لي، وامتناعهن عن ذكر تلك التهمة إلى آخر الحديث، وكنت أعود من جلسة التباهي تلك ببعض الشرف الذي يظنون أنني لم أنَلْهُ.
رضا
متعبون جداً أولئك البشر المتطلبون، الذين لا يعجبهم شيء، ولا يرضيهم فعل، لا يرون شيئاً كافياً، ويضعون “بس” في كل شيء، و “لو” عند كل رأي، يبحثون عن الجزء الفارغ حتى في الكأس المملوء، يجحدون المعروف المتراكم عند أول منكر، ينظّرون على كل من يقابلون، ويعطون التعليمات للجميع، يصححون للمختصين طريقة أعمالهم، ويقيّمون للعاملين أداءهم، يرون أنفسهم أفضل و “أفهم” من الجميع، وأكثر خبرة وتميزاً من البقية..
لا أعتقد أن للرضا إلى قلوب هؤلاء طريق، أو أن للقناعة في أنفسهم مكوث.
مشهد النهاية
في شارع ضيق، وقت الظهيرة، وسط جمهرة من الناس، بدا الجميع واجماً والصوت خافتاً ولم تسمع سوى همهمات، كان المشهد يقترب مني وأنا أسير غريباً مبهماً، لكنه اتضح بوجود سيارة الإسعاف خلف ذلك التجمهر، كان الجميع منتظرين، أنظارهم معلقة بالباب الذي تقف مقابله السيارة، حتى خرج من الباب مسعفان يحملان محفة عليها شخص مسجى، لا تظهر ملامح جسده أو وجهه، ملفوفاً بالأغطية، ساكناً سكون الموت..
لم أعرف إذا كان رجلاً أم امرأة، لكنني عرفت من وجوه الأشخاص الذين تبعوا الجثمان إلى داخل الإسعاف، أنه كان قبل اليوم روحاً، وقلباً، وحياة..