القلق الاجتماعي أطفال خائفون ونوبات هلع وبكاء مستمرة
جرعات الحب والاحتواء العلاج الأول والأمثل

تحقيق : السعادة
يستيقظُ عُدَي “9” سنواتٍ من نومِه؛ يبكي خائفًا بشكلٍ يوميّ؛ وتحاولُ والدتُه تهدئتَه وطمأنتَه؛ لكنه يقولُ لها: إنَّ حيواناً مفترساً يريدُ أنْ يأكلَه! ورغم أنّ والدَيه يقومانِ بإضاءةِ الغرفةِ كاملةً؛ والتنقلَ بأرجاءِ البيتِ؛ والإيضاحِ له أنّ منزلَهم مغلقٌ؛ ولا يمكنُ لحيوانٍ أنْ يدخلَ بيتَهم؛ إلّا أنّ محاولاتِ العائلةِ تبوءُ بالفشلِ.
والدةُ “عُدي” تقولُ لـ “السعادة”:” بدأتْ أعراضُ الخوفِ والقلقِ جرّاءَ مشاهدةِ طفلي بعضَ المقاطعِ على “اليوتيوب”؛ اتّضَحَ فيما بعدُ أنها خِدَعٌ سينمائيةٌ لحيواناتٍ آكلةٍ لِلُحومِ البشرِ، وقُمنا بعملِ كلِّ ما أملاهُ علينا الأخصائيون النفسيون الذين عرضنا عليهم طفلَنا؛ حتى إننا اتَّجهنا للطبِّ العربيّ؛ لعملِ ما يُعرفُ بـ “الخوفة “التي استفادَ منها بعضَ الشيءِ؛ إلّا أنّ استيقاظَه وصراخَه بشكلٍ يوميّ لم يتغيرْ!
وتُتابعُ: قُمنا بمتابعةِ الأمرِ معه على أكثرَ من مرحلةٍ؛ إلاّ أنّ الخوفَ تملّكَ من شخصيتِه؛ حيثُ أنه يخافُ من العَتمةِ والحيواناتِ والاختلاطِ مع الناسِ؛ ومن القصفِ والأحداثِ والأصواتِ العاليةِ؛ وقد أثّرَ هذا الخوفُ على شخصيتِه؛ إذْ انه بشكلٍ مستمرٍّ يشعرُ بالقلقِ والخوفِ والتوترِ.
طفلةٌ ملتصِقةٌ
بينما ترفضُ الطفلةُ آلاء “10 أعوامٍ ” اللعبَ أو الانخراطَ بأيِّ تجمُعٍ للأطفالِ؛ سواءٌ داخلَ المدرسةِ أو مع الأطفالِ من عائلتِها! وعادةً ما تلتصقُ بوالدتِها في أيِّ تجَمُع، في حين لا يعرفُ المقربونَ والأصدقاءُ صوتَها؛ فهُم لم يسمعوهُ مُسبقاً!
وتضيفُ والدتُها: منذُ سنواتِ عُمرِها الأولى؛ وهي لا تختلطُ بأيِّ أشخاصٍ؛ اعتقدْنا في البدايةِ أنه مرضُ التوَحُدِ؛ لكنْ مع المتابعاتِ النفسيةِ؛ اكتشفْنا أنه ” الرهابُ الاجتماعي”، ورغمَ كلِّ محاولاتِنا لإدماجِها مع الآخَرينَ؛ إلّا أنها تخافُ الاختلاطَ؛ ولا تشاركُ باللعبِ؛ ولا تُبادرُ للكلامِ؛ وإذا سلّمَ عليها أحدُ الأقرباءِ تصابُ بحالةٍ من القلقِ والتوترِ؛ أمّا في المناسباتِ فتصبحُ طفلةً أخرى ملتصقةً بي غالبيةَ الوقتِ؛ أو مختفيةً عن الأنظارِ في أحدِ الأماكنِ!
في حين تقولُ “أم ياسر” أنّ ابنَها منذُ طفولتِه يعاني من الخوفِ والرهابِ؛ حتى أصبحَ نمطُ حياتِه بهذه الصورةِ، وتقولُ لـ ” السعادة “: يوجدُ في منطقتِنا موقعٌ عسكريٌّ لتدريبِ المقاومةِ؛ وبشكلٍ يوميّ يتعرضُ للقصفِ من طائراتِ الاحتلالِ؛ إضافةً إلى أصواتِ التدريباتِ الدائمةِ؛ والتي نسمعُها بشكلٍ دائمٍ؛ هذه الأصواتُ جعلتْ من طفلي قلِقاً ومتوتراً وخائفاً من أنْ يتعرّضَ للقصفِ.
وتضيفُ: في حالِ توترتْ الأحداثُ بينَ المقاومةِ وجيشِ الاحتلالِ؛ يصابُ ابني بحالةِ هلعٍ وخوفٍ قد تستمرُّ لأيامٍ؛ يجافي فيها النومَ والراحةَ، وأحياناً تستمرُّ بعدَ انتهاءِ جولةِ التصعيدِ لأسابيعَ، وقد فعلْنا كلَّ ما بوِسْعِنا؛ إلّا أنّ الرهابَ يسيطرُ عليه بشكلٍ تامٍّ.
من جانبِها تقولُ الدكتورة “رائدة أبو عبيد” اختصاصيةُ علمِ النفسِ والنمو:” إنّ الخوفَ عندَ الطفلِ شعورٌ طبيعي؛ وجزءٌ من تطوُّرِه النفسي والعاطفي؛ يبدأُ بالظهورِ في سنِّ الثمانيةِ أشهر، ففي هذه السنِّ يتولّدُ لدَى الطفلِ قلقُ الانفصالِ عن والدتِه، وعندما يرى شخصاً غريباً؛ قد يخافُ؛ ويقال بالعامية «استغرَبَ»؛ وهذه أول مظاهرِ الخوفِ العلنيةِ عندَ الطفلِ.
وتضيفُ: في هذه السنِّ صارت لديهِ القدرةُ على حِفظِ وجوهِ بعضِ الأشخاصِ المقرّبينَ منه، وعندما يرى وجهاً غيرَ مألوفٍ؛ قد يخافُ ويرفضُ الاقترابَ منه؛ ويعبّرُ عن ذلكَ بالبكاءِ، وعندما يبلغُ الطفلُ ثلاثَ سنواتٍ يصبح عندَه نموٌّ عقليٌّ؛ وتتطوّرُ لدَيه مَلَكةُ التخيّلِ؛ فيخترعُ أموراً وهميةً لا وجودَ لها في الواقعِ؛ إلّا أنه في الوقتِ نفسِه لا ينسجُها من مَحضِ خيالِه فقط؛ بل يستمِدُّها من مشاهدَ رآها في التلفزيونِ؛ أو قصصاً قرأتْها له والدتُه.
جرعاتُ حبٍّ
وتُتابعُ: يعدُّ اضطرابُ “الرهابِ الاجتماعي” من أكثرِ الاضطراباتِ النفسيةِ الشائعةِ عندَ الأطفالِ؛ وعلى الرغمِ من وضوحِ أعراضِه المزعجةِ لبعضِ الأُسرِ؛ إلاّ أنّ التفسيراتِ الخاطئةَ غالباً ما تساهمُ في ترَسُّبِه ونموِّه إلى مرحلةِ المراهقةِ والشبابِ، وللأسفِ، فإنّ هناك الكثيرَ من العُقدِ النفسيةِ المؤثرةِ في شخصيةِ الطفلِ ستستمرُّ؛ وحينَها ستزيدُ شكاوَى الأسرةِ والمدرسةِ، فضلاً عمّا يعانيهِ المصابُ من متاعبَ؛ تعطّلُ أهدافَه الحياتيةَ والمستقبليةَ.
وتواصلُ: من مؤشراتِ الرهابِ الاجتماعي؛ القلقُ والارتباكُ عندَ مقابلةِ الجمهورِ؛ مع الخوفِ الشديدِ أو تجنُّبُ اللقاءاتِ الاجتماعيةِ؛ وهنا لابدّ من المبادرةِ في علاجِ الطفلِ، والتواصلِ مع مختصينَ أو مستشارينَ؛ كذلكَ يجبُ على الوالدينِ تفَهُمُ حالتِه وإعطائهِ جرعاتٍ كبيرةٍ من الحبِّ والحنانِ؛ إضافةً إلى الحوارِ معه، والإنصاتِ لمشاعرِه؛ حيثُ يساهمُ ذلك في تنميةِ ثقتِه بنفسِه، وتقديرِه لذاتِه؛ إلى جانبِ إشراكِه تدريجاً في أنشطةٍ اجتماعيةٍ بسيطةٍ.
في حين يقولُ “محمد أبو يوسف” -مدرّبٌ وأخصائيّ نفسيّ وإكلينيكي-: الرهابُ الاجتماعيّ مشكلةٌ سلوكيةٌ عندَ الطفلِ؛ واضطرابٌ نفسيّ يختلفُ كُلياً عن الخجلِ الذي يُعدُّ صفةً نفسيةً يُمكِنُ أنْ تكونَ عند الأطفالِ أو البالغينَ، مضيفاً أنه في الغالبِ يكونُ سبَبُه قلّةَ الوعيّ، والصعوبةَ في تشخيصِ المشكلةِ؛ ما يجعلُ البعضَ من الأُسرِ يعتقدُ أنه نوعٌ من الخجلِ؛ لكنْ كُلما زادَ عمرُ الطفلِ واحتكاكُه بالمجتمعِ _متمثلاً بالأصحابِ في بيئةِ المدرسةِ، والأقاربِ في محيطِ الأسرةِ_ كُلما اتّضحتْ الصورةُ أكثرَ في قصورِ أداءِ الطفلِ أثناءَ تفاعلِه مع مجتمعِه، سواءٌ كان باللعبِ أو عدمِ قدرتِه على التحدثِ أمامَ الآخَرينَ _في الفصلِ مثلاً_، وعجزِه عن تكوينِ العلاقاتِ، وقصورٍ واضحٍ في اللغةِ التعبيريةِ، مُبيّنةً أنّ الرهابَ الاجتماعي _كأيِّ مرضٍ نفسيّ أو جسديّ؛ يولدُ الطفلُ ولدَيهِ بوادرُ استعدادِ الإصابةِ به؛ لكنّ البيئةَ تُعدُّ عاملاً مُهِماً في تعزيزِ ظهورِ هذا الاضطرابِ، أو وجودِه داخلَ الطفلِ.
نوباتُ هَلعٍ
ويشيرُ: لا تقتصِرُ مشكلةُ اضطرابِ الرهابِ الاجتماعي، على تكوينِ علاقاتٍ مع الفئةِ العمريةِ نفسِها؛ إنما المشكلةُ في أنه يتكونُ عندَ الطفلِ خوفٌ شديدٌ من أيِّ موقفٍ اجتماعي؛ وقد يكونُ هذا سببَ ابتعادِه عن التواجدِ في الأماكنِ العامةِ والمزدحمةِ بالناسِ، وينشأُ هذا النوعُ من الاضطرابِ لعِدّةِ أسبابٍ منها: تعرّضُ الطفلِ إلى التنمُرِ أو موقفٍ مُحرجٍ، مؤكّدةً على أنه يكونُ الرهابُ من الأماكنِ العامةِ أكثرَ من التعاملِ مع الأشخاصِ.
وأوضحَ “أبو يوسف” أنه لا يَتِمُ اكتشافُ مشكلةِ اضطرابِ الرهابِ الاجتماعي؛ إلاّ بعدَ دخولِ الطفلِ للروضةِ أو المدرسةِ؛ لأنّ ذلكَ سيؤثّرُ في أدائه المدرسي، وأحياناً يظهرُ على صورةِ «تأتأة» وتلَعثُمٍ في الكلامِ؛ عندَ إرغامِ وإجبارِ الطفلِ على إلقاءِ كلمةٍ _مَثلاً_ في مكانٍ مزدحمٍ، وقد يصلُ إلى مرحلةِ البكاءِ، والاستفراغِ، والتهرّبِ، والاستئذانِ لتَجنُّبِ الموقفِ.
ويضيفُ: قد يكونُ الدلالُ والحمايةُ الزائدةُ سبباً في بعضِ الحالاتِ؛ حيثُ تتفاقمُ المشكلةُ لدَى الطفلِ الوحيدِ، وعندما تكونُ سياسةُ الوالدينِ هي إجبارُ الطفلِ على الكلامِ أو السلامِ أو تنفيذِ أيِّ أمرٍ آخَرَ؛ فقد يؤدّي ذلكَ إلى نوباتٍ هلعٍ؛ مبيّناً أنّ الرهابَ الاجتماعي ليس فقط سلوكياتٍ؛ ولكنه يدخلُ في كيمياءِ المُخِّ، فيزيدُ إفرازُ هرمونِ القلقِ بمُجردِ ذِكرِ حدثٍ مُعيّنٍ، ويقَلُّ إفرازُ هرمونِ “الأدرينالين”؛ الهرمونُ المسؤولُ عن تهدئةِ القلقِ، لافتاً إلى أنّ الحلَّ يكمُنُ في استبدالِ سياسةِ الإجبارِ بالاسترخاءِ؛ وهي تدريبُ الطفلِ على تمرينٍ بسيطٍ؛ هو أخذُ نفسٍ عميقٍ لمدةِ ثلاثِ ثوانٍ؛ والزفيرُ بهدوءٍ، كذلك لغةُ الحوارِ بينَ الأبِ والأمِّ والطفلِ؛ يجبُ أنْ تكونَ هادئةً.
ويرى “أبو يوسف” أنه يجبُ مواجهةُ الأفكارِ والمعتقَداتِ السلبيةِ التي كوّنَها عن ذاتِه بالتشجيعِ وروايةِ القصصِ؛ لِما فيها من تنميةِ العلاقةِ بينَ الوالدينِ والطفلِ، وإيصالُ رسائلَ إيجابيةٍ للطفلِ؛ لأنها تعدُّ من الأمورِ المحبّبةِ لديهِ، والتي يمكنُ من خلالِها تنميةُ المبادئِ، وسهولةُ اكتسابِ الأخلاقياتِ التي تناسبُ النموَّ العقلي؛ لذلكَ من المفترَضِ عدمُ الحُكمِ على المشاعرِ السلبيةِ للطفلِ؛ بأنها شيءٌ خاطئٌ أو عيبٌ، فليس من الخطأِ أنْ يشعرَ الطفلُ بالخوفِ أو القلقِ؛ لكنْ يجبُ معرفةُ النقطةِ الفاصلةِ بين الخوفِ الطبيعي، والخوفِ المرَضي الذي قد يسيطرُ عليه، ومن المُهمِّ تشجيعُ الطفلِ على التعبيرِ عن مشاعرِه بكلِّ أريَحيةٍ؛ ومن غيرِ إصدارِ أحكامٍ؛ بل بالتحفيزِ والرسائلِ الإيجابيةِ.
تَعرُّقٌ وصداعٌ
وفى حين، يؤكّدُ “محمود عبد العزيز منصور”-أخصائي اجتماعي وتربوي-؛ على أنّ من أهمِّ أسبابِ استمرارِ الرهابِ الاجتماعي إلى مراحلَ عُمريةٍ متقدّمةٍ؛ هو طريقةُ تعاطي الوالدينِ مع هذا الاضطرابِ في مرحلةِ الطفولةِ، وأيضاً انخفاضُ الوَعيِ في البيئةِ المدرسيةِ بشكلٍ خاصٍّ؛ وفي المجتمعِ بشكلٍ عام.
ويضيفُ: في حالِ ملاحظةِ مؤشِراتِ الرهابِ على الطفلِ عندَ مقابلتِه للجمهورِ؛ كالقلقَ، والارتباكِ المبالَغِ فيه، وتَعرُّقٍ شديدٍ، أو صداعٍ وضيقٍ في التنفسِ، مع الخوفِ الشديدِ، أو تجنُّبِه اللقاءاتِ الاجتماعيةَ؛ فلابدّ من المبادرةِ في علاجِه، والتواصلِ مع مختصينَ أو مستشارينَ، وعرضِه عليهم مباشرةً؛ مبيّناً أنّ عدمَ علاجِ الطفلِ من هذه الحالةِ له تأثيرٌ سلبيٌّ وعميقٌ على مستقبلِه وحياتِه؛ من حيثُ التحصيلِ الأكاديميّ، وحياتِه الاجتماعيةِ، وقد يتطوّرُ إلى أمراضٍ نفسيةٍ.
ويذكرُ “منصور” أنّ من أهمِّ الخطواتِ التي يجبُ على الوالدينِ اتّباعُها؛ عندَ ملاحظةِ أيٍّ من المؤشراتِ السابقةِ؛ عدمُ السخريةِ من حالتِه أبداً، فهذا يؤدّي إلى زيادةٍ في حدّةِ الرهابِ، إضافةً إلى تفَهُمِ حالتِه وإعطائه جرعاتٍ كبيرةً من الحبِّ والحنانِ؛ عن طريقِ الضمِّ والاحتكاكِ الإيجابيّ واللغةِ؛ مشيراً إلى أنّ الحوارَ مع الإنصاتِ لمشاعرِه من أهمِّ الخطواتِ التي تنمّي ثقتَه بنفسِه وتقديرِه لذاتِه؛ بمحاولةِ التدرّجِ في إشراكِه بأنشطةٍ اجتماعيةٍ بسيطةٍ، وتشجيعِه على حديثِ النفسِ الإيجابي؛ كذلك التدرّجُ معه في الإلقاءِ أمامَ الجمهورِ؛ كحديثِه أمامَ المِرآةِ أولاً؛ ثُم أمامَ الوالدينِ وإخوتِه.