
تحقيق: السعادة
تنوّعتْ الأساليبُ والطرُقُ عندَ المحتلِّ الإسرائيليّ؛ لتهويدِ مدينةِ السلامِ؛ وطمسِ ملامحِها المقدسيةِ؛ ومحاولةِ تهجيرِ أهلِها؛ وممارسةِ أسوأِ أنواعِ الإذلالِ والمَهانةِ والمعاناةِ، مسلسلٌ متكرّرٌ بشكلٍ يوميّ؛ يسعونَ لتنفيذِه؛ كي يهوِّدوا مدينةَ القدسِ، وأمامَ تلكَ الممارساتِ نجدُ الصمودَ والشجاعةَ والتصدِّي من أهالي المدينةِ الصامدةِ، والوقوفَ في وجهِ المحتلِّ، ورفضَ الاستسلامِ لقراراتِه.
“السعادة” كانت لها جولتُها بينَ المَقدسيّينَ؛ واستمعتْ إلى صمودِهم ومواجهتِهم لعملياتِ التهويدِ .
أمجد الحسيني (40) عاماُ، يقطنُ في أحدِ حاراتِ القدسِ؛ التي يحاولُ المحتلُّ ترحيلَ أهلِها؛ وطمسَ ملامحِها العربيةِ يقولُ:”نواجِهُ بشكلْ يوميٍّ ممارساتٍ بشعةً ومضايقاتٍ من أجلِ تركِ بيوتِنا، ونتلقّى بشكلٍ متكرّرٍ إخطاراتٍ بالترحيلِ؛ بحُجةِ هدمِ الحارةِ، فهي غيرُ مؤهَلةٍ للسكنِ، ولكننا نرفضُ استلامَ أيِّ إخطارٍ.. وكثيراً ما تعرّضتْ بيوتُ الجيرانِ للهدمِ، ولم يتركوها.. وتمَّ بمساعدةِ أهلِ الحارةِ بناءُ بيتٍ من (الإسبست) دونَ ترخيصٍ؛ لنُثبِتَ لهم أنهم مَهما حاولوا تدميرَ بيوتِنا لإلغاءِ وجودِنا؛ فسوفَ نَحيَى ونموتُ على أراضينا، ونعيشُ بشكلٍ متكررٍ ممارساتٍ يوميةً بشعةً لِطمسِ وجودِنا.
يقولُ المَقدسي “إلياس عبد ربه” في بدايةِ الخمسيناتِ من عُمرِه:” ما تتعرضُ له مدينةُ القدسِ من محاولاتٍ لطمسِ معالمِها؛ يفوقُ التصوّرَ، فكلُّ يومٍ نعيشُ ونشاهدُ صوراً جديدةٍ للتهويدِ؛ ولكنّنا نُصِرُّ على التمسّكِ بعروبتِنا وجذورِنا، فأنا صاحبُ محلٍّ في أسواقِ القدسِ العتيقةِ؛ ورِثتُه عن أجدادي؛ يقصِدُه كلُّ المقدسيّينَ والزوارِ؛ لأنه مختصٌّ بالعطارةِ والأعشابِ، وقمتُ بإضافةِ جزءٍ مخصَّصٍ بالمُقتنياتِ المقدسيةِ الأصيلةِ؛ وبيعِها بثمنٍ مخفّضٍ؛ حتى تبقَى عائشةً فينا.
ويبيّنُ أنّ مَحلَّه تعرّضَ لكثيرٍ من الإخطاراتِ من قِبلِ الاحتلالِ؛ لإجبارِه على ترْكِه وإغلاقِه، وتمَّ عرضُ أموالٍ خياليةٍ عليه لبَيعِه؛ ولكنه رفضَ..؛ وهذا حالُ الكثيرِ من المحلاتِ التجاريةِ الموجودةِ في أسواقِ القدسِ.
في حين يشتكي عبد الحي الخولي (55) عاماً، حِرمانَه من الترخيصِ لبناءِ طابقٍ إضافيٍّ لابنِه؛ ليُسكِنَه عندَه؛ ولكنْ في كلِّ مرةٍ يأتي الرفضُ.. ما اضطّرَّه إلى أنْ يستأجرَ بيتاً له.. يقولُ:” يتَّبِعُ الاحتلالُ معَنا سياسةَ التضيّيقِ في منحِ التراخيصِ لطوابقَ إضافيةً؛ ما يُضطَّرُ بعضُنا لتزويجِ أبنائه في مدنٍ قريبةٍ منّا، فنشعرُ بالعجزِ والقهرِ أمامَ غطرسةِ المحتلِّ “.
ويضيفُ:” برغمِ محاولاتِ التهويدِ بطمسِ معالمِ المدينةِ: كبناءِ المستوطناتِ وأماكنِ العبادةِ الخاصةِ بهم، وتحويلِ المساجدِ إلى معاهدَ دينيةٍ لهم؛ إلا أننا نحاولُ التمسُّكَ ببيوتِنا وحاراتِنا ومعالِمِنا المقدسيةِ، وعندَ إغلاقِ المساجدِ، ومنعِ رفعِ الأذانِ، ومنعِ المصلّينَ من الصلاةِ فيها؛ نُصِرُّ على رفعِ الأذانِ بجانبِ المسجدِ، والصلاةِ والجلوسِ لساعاتٍ أمامَ المسجدِ، وعملِ المظاهراتِ من سكانِ المنطقةِ؛ حتى يتراجعوا عن قرارِهم “.
في حين تحدّثَ المَقدسي “أبو أحمد الحمدوني” عن الإهمالِ الواضحِ للبنيةِ التحتيةِ في مناطقَ معيّنةٍ من مدينةِ القدسِ؛ حتى يَعدِموا الحياةَ فيها، ويُجبِروا أهلَها على تركِها؛ ما دفعَ الأهالي إلى حفرِ الآبارِ في المنطقةِ، ومدِّ خطوطٍ للكهرباءِ، وبعدَ فتراتٍ من الانتظارِ والمعاناةِ؛ يتمُّ السماحُ بمَدِّ خطوطٍ لهم، ويبقَى أهالي المناطقِ المُهمّشةِ رَهنَ الإذلالِ والانتظارِ “.
ما تزالُ إسرائيلُ تمارسُ حملةً شرسةً ضدَّ أهالي مدينةِ القدسِ؛ في محاولةٍ لتفريغِ المدينةِ من سكانِها الأصليينَ، وإحلالِ سكانٍ غُرباءَ طارئينَ مكانَهم، وتهويدِ القدسِ، وتغييرِ معالمِها وتراثِها، وتحريفِ تاريخِها الأصيلِ، فتنوّعتْ انتهاكاتُ المحتلِّ الإسرائيليّ المُمنهَجةُ إزاءَ المواطنينَ المقدسيينَ.
يتحدّثُ “للسعادة” مديرُ جمعيةِ القدسِ “أحمد سعادات”؛ عن وسائلِ تهويدِ القدسِ التي اعتمدتْها حكومةُ الاحتلالِ؛ من أجلِ تهويدِها بشكلٍ كاملٍ؛ ومنها عملياتُ القتلِ والتدميرِ منذُ عامِ (1948)م؛ ولا تزالُ تعتمِدُها حتى الآن؛ ومن ضِمنِها سياسةُ هدمِ المنازلِ العربيةِ في القدسِ؛ لأسبابٍ سياسيةٍ واعتباراتٍ وأهدافٍ؛ حيثُ يأتي التضييقُ على المواطنينَ المقدسيينَ؛ لإجبارِهم على تركِ المدينةِ، وإلغاءِ حقِّهِم في الإقامةِ في القدسِ، وسحْبِ هوياتِهم في مرحلةٍ لاحقةٍ؛ بذريعةِ نقلِ مركزِ حياتِهم إلى خارجِ المدينةِ.
يقول :”تعَمَّدَ الاحتلالُ إعطاءَ مجالٍ أكبرَ للتوسُّعِ الاستيطاني على حسابِ الأرضِ الفلسطينيةِ، واللجوءَ لسياسةِ هدمِ المنازلِ الفلسطينيةِ؛ بحُجّةِ عدمِ حصولِ أصحابِها على التراخيصِ من البلديةِ الإسرائيليةِ، كأداةٍ لتفريغِ المدينةِ من سكانِها الفلسطينيينَ، مقابلَ ضخِّ المزيدِ من المستوطنينَ إلى المدينةِ المقدسةِ.
ويبيّنُ أنّ حكومةَ الاحتلالِ الإسرائيليّ لجأتْ إلى وضعِ سياسةٍ سكانيةٍ مجحِفةٍ بحقِّ الفلسطينيينَ؛ اعتمدتْ على مواقفِ الحكوماتِ الإسرائيليةِ المتلاحقةِ؛ منطلِقةً من مبدأ تحجيمِ وتقليصِ عددِ الفلسطينيينَ في القدسِ .
يتابعُ حديثَه في ذاتِ السياقِ قائلاً :”لقد عملتْ السلطاتُ الإسرائيليةُ وفقَ سياسةِ تجميدِ البناءِ العربي داخلَ الحدودِ البلديةِ؛ ولِضمانِ ذلكَ ماطلَتْ في إعدادِ مخططاتٍ هيكليةٍ للمدينةِ، والتي بدونِها لا يُسمحُ قانونياً بالبناءِ.. وللوصولِ إلى هدفِ تحجيمِ وتقليصِ التواجدِ السكانيّ الفلسطينيّ في المدينةِ؛ وضعتْ سلطاتُ الاحتلالِ نظاماً قهرياً يقيّدُ منحَ تراخيصِ المباني، وحصرَها بصورةٍ غيرِ مباشرةٍ في التقدّمِ بطلباتِ رُخصٍ فرديةٍ للبناءِ، وأخضعتْها لسُلّمٍ بيروقراطي وظيفي مشدَّدٍ، بحيثُ تمضي سنواتٌ قبلَ أنْ تصلَ إلى مراحلِها النهائيةِ.
ويذكرُ من ناحيةٍ أخرى: لقد وظّفَ الاحتلالُ عدّةَ اتّجاهاتٍ أخرى في هذا الجانبِ أهمُّها: عدمُ السماحِ بارتفاعِ المباني العربيةِ في القدسِ لأكثرَ من طابقينَ أو ثلاثةٍ؛ ما يحدُّ من إمكانياتِ التوسّعِ العمراني العمودي.
يقولُ :”أمامَ النقصِ المتزايدِ في أعدادِ الشققِ المتاحةِ للفلسطينيينَ داخلَ حدودِ البلديةِ؛ لم يكنْ هناك مفرٌّ سِوى البحثِ عن مساكنَ خارجَ الحدودِ البلديةِ؛ إمّا في الضواحي المجاورةِ للمدينةِ، أو في المدنِ الأخرى مِثل: رام الله والبيرة، وهكذا فإنّ هذا الاتجاهَ يحقّقُ بصورةٍ غيرِ مباشرةٍ أحدَ الأهدافِ التي خطّطتْ لها إسرائيلُ في مسألةِ التهويدِ، وبخلافِ مشكلةِ ترخيصِ البناءِ؛ يعاني المَقدسيونَ _وخاصةً الأزواجَ الشابةَ_ من مشكلةِ الحصولِ على سَكنٍ؛ حيثُ لا يكونُ بوُسعِهم سِوى الهجرةِ من المدينةِ إلى المناطقِ المجاورةِ، وتحتدمُ المشكلةُ إذا كانت الزوجةُ لا تحملُ هويةَ القدسِ، حيثُ لا يُسمحُ لها بالإقامةِ في المدينةِ؛ ما يعزِّزُ مسألةَ الهجرةِ لدَى الأزواجِ الشابةِ؛ ويحدُّ ذلك من النموِّ الطبيعي لأهالي القدسِ.
يضيفُ :”كما انتهجتْ سلطاتُ الاحتلالِ سياسةً؛ وَضعتْ بمُوجبِها أراضيَ فلسطينيةً صالحةً للبناءِ والتوسعِ العمراني؛ تحتَ بندِ المناطقِ الخضراءِ، والمَحميّاتِ الطبيعيةِ؛ وحُرمَ الفلسطينيونَ من استخدامِها لأغراضِهم السكنيةِ، في الوقتِ ذاتِه، يتمُّ بناءُ وحداتٍ سكنيةٍ استيطانيةٍ بشكلٍ مكثّفٍ عليها؛ بعدَ أنْ يتمُّ مصادرتُها!
كما يذكرُ “سعادات” أنه تمَّ في السابقِ مصادرةُ أراضي “جبل أبو غنيم” جنوبي مدينةِ القدسِ، الذي يمتلِكُه فلسطينيونَ من (بيت ساحور، وأُم طوبا)، وتبلغُ مساحتُه (1850) دونماً- كانت قد أعلنتْ عنه السلطاتُ الإسرائيليةُ مناطقَ خضراءَ تابعةً لأراضي الدولةِ اليهوديةِ، في حين وافقتْ على إقامةِ حيٍّ استيطانيٍّ عليه؛ يستوطِنُه (5000 )مستوطنٍ، وفي حين تُعاني قريةُ “أم طوبا” والأحياءُ الفلسطينيةُ الأخرى من ضائقةٍ سكنيةٍ خانقةٍ، ويُحرمُ السكانُ من التوسعِ. ومع بدءِ تنفيذِ البناءِ الاستيطاني على الجبلِ؛ فانّ الحزامَ الاستيطانيَّ حولَ القدسِ من الجنوبِ سوفَ يكتملُ؛ ليُشكّلَ حزاماً عازلاً بينَ جنوبِ الضفةِ الغربيةِ ومدينةِ القدسِ.
في حين تعدّدتْ أساليبُ التضييقِ الإسرائيليةُ على عملياتِ البناءِ والإسكانِ الفلسطينيةِ؛ فتمَّ تقليصُ المساحاتِ المخصّصةِ للإنشاءاتِ السكنيةِ للفلسطينيينَ في القدسِ، وتصنيفُ غالبيةِ الأراضي الخاصةِ بهم كمُسطّحاتٍ خضراءَ، يُمنعُ فيها البناءُ؛ لتكونَ احتياطاً استراتيجياً للاستيطانِ اليهودي، وشُقّتْ شوارعُ تهدفُ إلى منعِ البناءِ الفلسطيني، وصودرتْ أراضٍ واسعةٌ لاعتباراتٍ واهيةٍ متنوعةٍ!
كما يبيّنُ: إنّ سلطاتِ الاحتلالِ لا تسمحُ للمقدسينَ بتشييدِ أكثرَ من ثلاثةِ طوابقَ في المبنَى الواحدِ (مقابلَ السماحِ بثمانيةِ طوابقَ لليهودِ)، وتضعُ أمامَ البناءِ الفلسطيني عقباتٍ وشروطاً تعجيزيةً؛ منها رسومٌ وضرائبُ تصِلُ إلى مئاتِ آلافِ الشواقلِ، فضلاً عن المصاعبِ القانونيةِ والبيروقراطية؛ لذا يواجِهُ الفلسطينيونَ خياراتٍ صعبةً منها: مواصلةُ العيشِ في المكانِ ضمنَ أوضاعٍ وظروفٍ خانقةٍ، وتُكبُّدُ تكاليفِ البناءِ (القانوني) الباهظةِ، أو المغامرةُ بالبناءِ دونَ ترخيصٍ، أو مغادرةُ المدينةِ.
في سياقٍ آخَرَ طالَ البنيةَ التحتيةَ، يقولُ:”بغرضِ زيادةِ قوَى الطردِ الداخليةِ الموَجّهةِ ضدَّ المقدسينَ؛ لحملِهم على مغادرةِ المكانِ، تعمّدتْ سلطاتُ الاحتلالِ ترْكَ مكوّناتِ البنيةِ التحتيةِ المقدسيةِ في حالةٍ من التآكُلِ المستمرِّ، فماطَلتْ في إجراءِ الصيانةِ والإصلاحاتِ الضروريةِ لهذه المكوناتِ، وما قامت به لا يَرقَى إلى الحدِّ الأدنَى اللازمِ للحياةِ الإنسانيةِ، أمّا في المناطقِ السياحيةِ من مدينةِ القدسِ؛ فقد سَعتْ سلطاتُ الاحتلالِ إلى إيجادِ بعضِ المَظاهرِ التي تُضلّلُ عن الواقعِ.
وفي الوقتِ ذاتِه، تلقّتْ إجراءاتُ الاحتلالِ ضربةً مُرتدَّةً؛ إذْ شهِدتْ مدينةُ القدسِ عودةً كثيفةً من أبنائها للاستقرارِ في مدينتِهم، ونشطتْ مؤسساتٌ أهليةٌ وغيرُ حكوميةٍ في تمكينِ العائلاتِ من مواجهةِ الظروفِ القاسيةِ التي تكتنفُ الإقامةَ في المدينةِ.
وقامت الأُطرُ والفعالياتُ الفلسطينيةُ بتنظيمِ المسيراتِ والاعتصاماتِ، وتفعيلِ أنشطةٍ إعلاميةٍ وحقوقيةٍ وسياسيةٍ واجتماعيةٍ؛ لتعزيزِ صمودِ أبناءِ القدسِ وتثبيتِهم في مدينتِهم.