روايةُ “يس” لأحمد أبو سليم؛ تسلّطُ الضوءَ على ” مجزرةِ “دير ياسين”
تستعرضُ شهاداتِ المجزرةِ المجنونةِ

تقرير : السعادة
يكتشفُ الأطباءُ أنّ “ياسين” ذا السادسةِ من عُمرِه ؛ مُصابٌ بوَرمٍ يؤثّرِ على العصبِ البصري؛ ويجعلُه يرَى الأشياءَ بالمقلوبِ؛ من هنا تتشكّلُ لدَيهِ معرفةٌ مقلوبةٌ، ووعيًا بالواقعِ بصورةٍ معكوسةٍ، ويُخبرُ الأَطباءُ جدّتَه أنّ إزالةَ الوَرمِ يُمكِنُ أَنْ تؤدّي إلى موتِه.
هنا تحديدًا، تبدأُ روايةُ “يس”؛ للشاعرِ والروائي الفلسطيني “أحمد أبو سليم”، التي فازتْ بجائزةِ أفضلِ عملٍ أدبيٍّ عن مدينةِ القدسِ المحتلةِ لعامِ (2022)م، والتي يَمنحُها مُلتقى المُثقفينَ المَقدسي بالقدسِ، والاتحادُ العام للكُتابِ والأُدباءِ الفلسطينيينَ؛ وهي روايتُه الخامسةُ، بعدَ “الحاسّة صِفر”، وذئاب مَنوية”، و”كوانتوم”، و” بروميثانا”، وخمسِ مجموعاتٍ شعريةٍ.
جدارُ الذاكرةِ
وبحَسبِ الطبيبِ، يبدأُ “ياسين” بتفسيرِ الواقعِ بناءً على الرؤيةِ في المِرآةِ، والعلاقةِ بينَ الصورةِ والأصلِ، ونظريةِ المِثلِ لأفلاطون، ويَخرجُ بنتائجَ كثيرةٍ تعيدُ رؤيةَ هذا الواقعِ بشكلٍ مختلفٍ؛ وهذا تحديدًا الحلقةُ التي تدورُ في فَلكِها الروايةُ المعنويةُ “يس”؛ برَسمِها القرآني نسبةً إلى قريةِ “دير ياسين”، وسورةِ “يس”، والبطلِ “الياسين”، وتنطلقُ من نظرةٍ مُغايرةٍ في ملامحِ المجزرةِ وتأويلاتِها النفسيّةِ؛ ما بينَ الفعلِ الثابتِ ودوائرِ الحركةِ، في حيّزِ التداولِ اليوميّ للصورةِ المعلّقةِ على جدارِ الذاكرةِ.
“أحمد أبو سليم”؛ شاعرٌ وروائيٌّ من أصولٍ فلسطينيةٍ؛ يحملُ الجنسيةَ الأردنيةَ من مواليدِ (14 ديسمبر 1965) أنهَى دراسةَ الثانويةِ العامةِ في مدرسةِ “معاوية بن أبي سفيان” بالزرقاءِ سنةَ (1983)م، وأتمَّ دراستَه الجامعيةَ في الهندسةِ الميكانيكيةِ من جامعةِ الصداقةِ بينَ الشعوبِ في “موسكو” عامَ (1992)م، وشاركَ ببرنامجِ أميرِ الشعراءِ، وحصلَ على لقبِ شاعرِ القضيةِ.
نشرَ العديدَ من القصصِ القصيرةِ، وقصائدَ ومقالاتٍ منشورةً في الصحفِ الأردنيةِ والعربية ، وشاركَ في عددٍ كبيرٍ من المهرجاناتِ في العواصمِ العربية، وهو عضوٌ في رابطةِ الكُتّابِ الأردنيينَ، والاتحادِ العام للأدباءِ والكُتابِ العربِ، واتحادِ كُتابِ الإنترنت العربِ،وقد تُرجمتْ بعضُ قصائدِه إلى اللغةِ الإنجليزية، وصدرتْ في كتابِ سلسلةِ (شعراءُ عربُ مُعاصِرونَ)، ونُشرتْ بعضُ القصائدِ في المجلةِ الأمريكيةِ (الحياةُ والأساطيرُ)، وعلى مواقعَ إلكترونيةٍ.
النَّبشُ في التفاصيلِ
يقولُ أبو سليم: إنّ الروايةَ جزءٌ من مشروعِه الذي يتحدثُ عن الأوضاعِ الفلسطينيةِ ومأساتِهم، ومساراتِ تلكَ القضيةِ، “وما يميِّزُ هذا المشروعَ باعتقادِه؛ أنه لا يأخذُ الوقائعَ كَمُسلّماتٍ؛ بقَدرِ ما يحاولُ أَنْ ينبشَ فيما وراءَها، في محاولةٍ لتسليطِ الضوءِ برؤيةٍ فلسفيةٍ على التفاصيلِ التي رُبما لا ينتبِهُ إليها الكثيرونَ، وإعادةِ دراستِها ضِمنَ المنطقِ الرِّوائيِّ-الفلسفيِّ، وما يسمحُ به فنيًّا”.
ويشيرُ إلى أنّ بِنيةَ الروايةِ تستندُ على منطقِ الضحيةِ؛ وما يُمكِنُ أَنْ يشكِّلَه من عائقٍ كَمفهومٍ أمامَ عمليةِ التحريرِ، وذلك لاستنهاضِ وَعيِه الرافضِ لفكرةِ تماهي الضحيّةِ مع مظلوميّتِها، دفعًا لمحاولاتِ إعادةِ التموضعِ لكُلّ العناصرِ المتناقضةِ، (المُستَعمِر والمستعمَر، الجلّادِ والضحيّةِ، الغالبِ والمغلوبِ)، وذلك لأنّ “الضحيّةَ بوَصفِها ضحيّةً لا يمكِنُ لها أنْ تنتصرَ”.
وبخلاصةٍ متصلةٍ بشريطٍ زمنيّ؛ يقولُ الروائي الفلسطيني في الصفحاتِ الأخيرةِ من الروايةِ “رُبَما آنَ الأوانُ كي نَخرُجَ من البروازِ، رُبَما آنَ الأوانُ كي نخرجَ من صورةِ المعركةِ إلى المعركةِ، من صورةِ الوطنِ إلى الوطنِ، من روايةِ الرّوايةِ إلى الرّوايةِ، ومن صورةِ البيتِ ومفتاحِه إلى البيتِ”.
يوضّحُ أبو سليم مَقصِدَه بالقولِ: “الضحيةُ كَونَها ضحيةً؛ لا يمكنُ لها أَنْ تنتصرَ، وقد كانت مجزرةُ “دير ياسين” النقطةَ المؤسّسةَ التي افتتحتْ بها العصاباتُ الصهيونيةُ سلسلةَ المَجازرِ التي تلَتها؛ من أَجلِ تثبيتِ هذا المفهومِ بالذاتِ؛ لِذا فإنّ الروايةَ التي تبدأُ “بدَير ياسين”؛ تنتهي بمجزرةِ صبرا وشاتيلا”.
تتكونُ الروايةُ من خمسةِ فصولٍ: (المجزرةِ، والمخيمِ، والسجنِ، والخالِ، والصُّورةِ)، الفصلُ الأولُ استعراضٌ لتفاصيلِ المجزرةِ الدقيقةِ، وهو محاولةٌ للخروجِ من التجريدِ الذي يصابُ به العقلُ البشري مع الزَّمنِ؛ كونَ مجزرةُ “دير ياسين” بتفاصيلِها المجنونةِ؛ أكثرَ المجازرِ في تاريخِ البشريةِ إيلامًا، لكنّ ذلك لا يعني أَبدًا أنّ أَهلَ القريةِ لم يدافعوا عنها حتى الرمقِ الأخيرِ، وكادوا أَنْ ينتصروا لولا تدخُلُ عصاباتِ “الهاغاناه” عندَ الظهرِ وقصفِ القريةِ”.
الناجي الوحيدُ
تُبنَى الروايةُ على شخصيةٍ رئيسةٍ؛ وهي “ياسين”، المولودُ في الأولِ من نيسان عامَ (1948)، أي قبلَ المجزرةِ بثمانيةِ أيامٍ، وهو الطفلُ الوحيدُ الناجي من مجموعةِ أَطفالٍ تمَّ إلقاؤهم من فوقِ السورِ وقتلُهم؛ لِذا، فهو يعتقدُ أَنّ حياتَه مُجردُ كذبةٍ، وأنه قد يكونُ شخصًا آخَرَ غيرَ ذلكِ الشخصِ الذي تُصِرُّ جدّتُه على أنه هو، ويلفتُ إلى أنها روايةٌ تحاولُ أَنْ تقولَ أشياءً كثيرةً من خلالِ ما نَعرفُه، وما لم يُنتبَهْ إليه من هذه المعرفةِ.
أما عن سببِ تمسُّكِه برواياتِ القدسِ؛ فيؤكّدُ رغبتَه في تثبيتِ السرديةِ الفلسطينيةِ، “فنحن بأمَسِّ الحاجةِ لنشرِ هذه السرديةِ، خصوصًا في ظلِّ الهجمةِ الإعلاميةِ المسعورةِ التي يقومُ بها العدوُّ بعدَ توقيعِ اتفاقياتِ التطبيعِ مع عددٍ من الدولِ العربيةِ، وخروجِ أَصواتِ نشازٍ تدافعُ عن السرديةِ الصهيونيةِ، وتهاجمُ الفلسطينيَّ، وتحاولُ طمْسَ سرديتِه”.
ويشدِّدُ على أنّ الفلسطينيينَ اليومَ؛ بأمَسِّ الحاجةِ لنشرِ هذه السرديةِ على أَوسعِ نطاقٍ في العالمِ؛ لأنّ العدوَّ يحاولُ أنْ يجدَ دائمًا مبرّرًا أَخلاقيًا لاحتلالِه لفلسطينَ، وقتلِه الفلسطينيينَ، ولا يوجدُ من هو أَهمُّ من الفلسطينيّ ذاتِه؛ كي يدافعَ عن سرديّتِه، واختارَ أبو سليم اسمَ “يس” بهذهِ الكتابةِ القرآنيَّةِ؛ لأنّ ذلك يندرجُ ضِمنَ تقديسِ هذه السرديةِ، وقد استغرقَ مُدّةَ تسعةِ أشهُرٍ في كتابةِ الروايةِ.
وعن الجائزةِ التي تُوِّجتْ بها الروايةُ، يقولُ: “شعرتُ بشعورٍ عظيمٍ في الحقيقةِ، وهو يطرحُ على عاتقي المزيدَ من المسؤوليةِ تُجاهَ ما أكتبُ، إنّ حمْلَ اسمِ القدسِ، وفلسطينَ، على عاتقِ الكاتبِ ليس أمرًا هينًا؛ إذْ إنّ القارئَ ذكيٌّ، ويقفُ دائمًا للكاتبِ بالمرصادِ، ويُحاسِبُه على أقلِّ الثّغراتِ، والهفواتِ، فما بالكَ إنْ كان الأمرُ متعلّقًا بفلسطينَ، وبالقدسِ بالذاتِ؛ بكُلِّ ما تَحملُه من قدسيةٍ في صدرِ كلِّ إنسانٍ حُرٍّ شريفٍ.